الأربعاء، 05 فبراير 2025

03:01 م

المستشار محمد نجيب
A A

47 ألف ضحية.. هل هذه مزحة؟!

من سخريات القدر أن أول من استخدم مصطلح "الإبادة الجماعية"، محام يهودي يدعى رافائيل ليمكين، وأطلقه في عام 1944 لوصف السياسات النازية لـ"القتل المنظم" الذي طال اليهود في أوروبا.
المحامي اليهودي ليمكين كان دقيقاً في شرح المقصود بهذا المصطلح، وهو وضع خطة ممنهجة تتألف من إجراءات مختلفة تهدف إلى تدمير الأساسيات الضرورية لحياة مجموعات قومية من البشر!
وحين بدأت المحاكمات الدولية العسكرية الشهيرة في مدينة نورمبرج الألمانية في عام 1945 استندت إلى اتهامات وجهت إلى مساعدي الزعيم النازي أدولف هتلر، وكبار قادته، بارتكاب "جرائم ضد الإنسانية" واستخدمت خلال هذه المحاكمات كلمة "الإبادة الجماعية" ذات دلالات وصفية ولم تكن مصطلحاً قانونياً.
المقدمة السابقة كانت ضرورية للقياس على ما تعرض له أشقاؤنا في غزة على مدار أكثر من 15 شهراً من عدوان، أقل ما يوصف به هو "الإبادة الجماعية، دون أن نحاول خوض معركة قانونية كتلك التي تبناها ليبكين!


لقد تحوّل الفلسطينيون بمختلف شرائحهم العمرية إلى مجرد أرقام بعد أسابيع وربما أشهر قليلة من اشتعال هذه الحرب اللعينة، ففي الأيام الأولى كنا لا ننام ألما وحزناً بسبب ما نشاهده من أعمال قتل وتدمير أرّقت ضمير الإنسانية في كل بقاع العالم، ثم تحوّلت بمرور الوقت إلى مشاهد اعتيادية، نمررها بأصابعنا مثل غيرها من مقاطع نطالعها على هواتفنا!
 

وكنت اسأل نفسي كثيراً، لماذا تصرّ إسرائيل على ذلك، رغم حالة السخط العالمية وتصريحات الشجب والإدانة، وأدركت أنها تتعمد ذلك، لتنقلنا إلى حالة موات إنساني وأخلاقي، وترسخ في أذهاننا ونفوسنا بأنها صاحبة اليد الطولى القادرة على التدمير والإبادة!
الآن ونحن نتحدث عن اتفاق لوقف إطلاق النار، من الضروري أن ندرك أن غزة بعد 15 شهراً من هذه هذه المقاتل، ليست كما كانت قبلها. بلغة الأرقام البغيضة، سقط نحو 47 ألف قتيل فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، ودمر أكثر من 92% من المباني السكنية، شملت 160 منزلاً انهارت كلياً، ما أدى إلى نزوح نحو مليوني فلسطيني داخلياً، في موجة نزوج تعكس حجم الكارثة الإنسانية التي تعرّض لها القطاع.
دعونا نوثق سوياً على سبيل ذر الرماد في العيون، أن عدد القتلى خلال هذه الحرب بلغ أكثر من عشرة أضعاف عدد ضحايا جميع النزاعات السابقة التي شهدتها غزة!
ولم تسلم البنية التحتية الصحية من الدمار، إذ بات أكثر من 50% من مستشفيات القطاع غير قادر على تقديم خدماته، ويمكن بالطبع أن نتخيل حجم المعاناة الناتجة عن ذلك!
كثيرون يرون في المقابل أن إسرائيل تكبدت خسائر كبيرة خلال الحرب، إذ قتل نحو 800 جندي وخسائر مادية تقدر بنحو 34 مليار دولار،  لكني أرى أن هناك مقارنة ظالمة في التقديرات، فمن الطبيعي أن يسقط عدد من المشاركين في هذا العدوان، بيما لا يمكن أن يقبل أي ضمير إنساني استهداف الأبرياء المدنيين، وتحديداً النساء والأطفال!
لا شك أننا نشعر بكثير من الراحة بعد التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب، لكن من الضروري أن لا نسقط من ذاكرتنا ضحايا عملية إبادة ممنهجة استمرت 15 شهراً، فدماؤهم ليست أغلى من دمائنا، حتى يتحول ضحايانا إلى مجرد أرقام تدون في أرشيف جوجل!
طوال الشهور الماضية نأيت بنفسي عن السقوط في فخ لوم الضحية، كما فعل كثيرون رأوا أن طوفان الأقصى كان عملاً عسكرياً غير محسوب من قبل حركة حماس، في ظل الفارق الرهيب في الإمكانات بين الآلة العسكرية الإسرائيلية وما تملكه المقاومة من عتاد، لأن قناعتي أن ما يعانيه الفلسطينيون في غزة قبل هذه الحرب لم يكن إنسانياً على الإطلاق، وبالتالي لا يمكن أن تطلب من شعب أن يعاني في صمت، دون أن يصرخ أو يغضب!
ما يحزنني أن الحديث الدائر حالياً حول مستقبل القطاع، يتمحور حول كون حماس الخيار الأمثل لإدارة القطاع، أما آن الأوان لاستبدالها بمن يحظى بقبول أكبر لدى الإسرائيليين والإمريكيين، دون أن يسعى أحد إلى التصعيد قضائياً على الأقل ضد المتورطين في استهداف المدنيين!
بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار، تنافس الرئيسان الأمريكيان، جو بايدن المنتهي ولايته، والرئيس المنتخب دونالد ترامب حول درجة تأثير كل منهما في إتمام الاتفاق، وعلى الرغم من أن الأول حاول على استحياء عدم إقصاء الآخر من الفضل فيما تحقق، إلا أن ترامب يعتبر نفسه صاحب الإنجاز لأنه كان حاسماً قبل أن يتولى المنصب رسمياً، حين هدد بكلمات واضحة بأنه سيحول المنطقة إلى جحيم لو لم يتم إطلاق سراح أسرى إسرائيل والتوصل إلى اتفاق!
وحين سئل بايدن عما إذا كان الفضل يعود إليه أو إلى ترامب في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار رد قائلاً "هل هذه مزحة؟!.. يا لسخافة مزاحكم!!
 

ما أعرفه جيداً أن مصر وقطر لعبتا دوراً في التوصل إلى هذا الاتفاق، وما أتمناه أن يتعاظم هذا الدور في المستقبل، خصوصاً وأن مجريات الأحداث أثبتت كذب كل ما تردد حول موافقة مصر على استقبال النازحين الفلسطينين إلى سيناء.
وما أتمناه أكثر أن نتمكن يوماً من الدفاع عن حق أشقائنا في حياة آمنة مستقرة، وأن لا يتحول ضحايانا إلى مجرد أرقام تحدّثها يومياً وسائل الإعلام، فيما تركّز جل اهتمامها عن الأسرى الإسرائيليين لدى حماس!
لقد عانت حكومة نتيناهو غضباً شعبياً جارفاً بسبب عجزها عن تحرير الأسرى، فيما اكتفينا دائماً بتصريحات خجولة تعبر عن حزننا وتضامننا مع شعب فقد 47 ألف روح خلال 15 شهراً فقط!
الفلسطنيون أصحاب قضية، وهم الوحيدون الذين يتمتعون بحق تقرير مصائرهم، لكن هذا لا يعني أن نتخلى عنهم ونتركهم لعدو معدوم الضمير والإنسانية..

search