الجمعة، 22 نوفمبر 2024

02:32 م

رحيل أبي.. وصوت أمي!

منذ رحيل أبي في آخر يوم من رمضان عام2017، لم نعد نحن كما كنا، لم نتجاوز آلام الفقد بعد، لم نستطع حتى ضبط حياتنا بعدما دق الحزن باب قلوبنا جميعا، أمي التي كانت ضحكاتها تهز أركان المنزل، لم تعد كما هي بعدما مزق الحزن قلبها، وهِن صوتها وزار المرض جسدها الذي كان يتحمل ما لم تتحمله الجبال، كنا نطلق عليها لقب "إنتي جبل"، ذلك الجبل الذي انهار منذ أن تركها رفيق دربها لأكثر من 40 عاما، كانت زوجة كما يجب أن يكون، وأمًّا يسع صدرها لحكايات القريب والغريب وقلبها لأولادها وأحفادها وجيرانها وكل من يعرفها، ملاك يشمل الجميع برعايته حتى وهي على فراش المرض تسأل على كل من يعرفها.

عام 2017 تغيرت فيه ملامحنا، فلم تعد تلك الابتسامات المرسومة على وجوهنا، حل مكانها ابتسامات مصطنعة نجاري بها الحياة من حولنا، شخصيا لم أعد أنا قبل 2017، عانيت كثيرا وتغيرت ملامحي، كبرت عمرا فوق سني وشعرت بالعجز لكنني أحاول الهروب أحيانا من تلك المشاعر، الجأ لأمي وارتمي في أحضانها، أطلب رحمة أيديها لتحن عليّ بعطفها، أجد نفسي سعيدة تارة وأحاول تجاوز آلام فقد والدي تارة أخرى.

أنا وأمي التي وهن صوتها، حينما نجتمع سويا في ذلك المكان الذي لا أسمع فيه غير صوت الهتافات بالدعاء لي، أشعر وكأنني ملكت الدنيا لكنني دون أن أدري أتذكر سريعا ضحكات ودعوات والدي في نفس المكان؛ فأشعر بنفس الشعور  المخيف حين رحل وتركني.

تركت منزل والدي وانتقلت إلى القاهرة، ربما هربا من تلك الذكريات وآلام الفقد التي تلاحقني، وفي محاولة لتحقيق حلم والدي الذي رسم ملامحه قبل رحيله، ومنذ انتقالي أكون على موعد مع مكالمة الفيديو كول عبر ماسنجر، كل صباح، أمي تحفظ وقت الاتصال دون أن تنظر في ساعة هاتفها، لكنني مؤخرا كنت أداعبها بقولي "صباح الخير.. عندي اجتماع يا حاجة"، لتلح هي بالاتصال حينما تشعر بأن الوقت يسمح، تسألني عن أحوالي وكيف تسير ساعات عملي، نضحك وتدعو لي، لكن قبل أيام انقطع اتصال أمي وكانت تكتفي بالاطمئنان علي هاتفيا، وحينما أدق لها كانت تتحجج بضعف شبكة الإنترنت، والحقيقة أنها كانت تهرب خوفا من أن أرى عينيها متعبتين وذابلتين فتنتابني حال قلق.

في هذه الأيام حل الهدوء مكان الدعوات، فصوت أمي الذي كان مثيراً للطمأنينة وهن وتعب، ترك في قلبي هزة وارتباكا لا أستطيع نسيانهما، حزنت كثيرا على ذلك البدن الذي مرض بعدما ورثه الحزن تعبا لا يوصف.

بالنسبة لي، فتعب أمي من أصعب الممّرات التي يمكن تجاوزها، فصوتها المتعب يجعلني أترك كل شيء وأركد حتى أصلها، تنتابني مشاعر  حزن وقلق لا أستطيع السيطرة عليها، ذلك الشعور المميت يدفعني إلى الدخول في حالة نفسية صعبة، نعم أؤمن بأن الابتلاء حق وأننا لا نملك إلا الدعاء، لكن تلك المشاعر  موجعة أكثر، تتعدّى أرواحنا إلى الأمد الذي يجعلها تَحل في أبسط تفاصيل يومنا، تجعلنا من الممكن أن نرتكب أخطاءً في تصرفاتنا دون أن يشعر من حولنا بحالتنا النفسية الصعبة، وهو ما حدث معي فعلا.

صوت أمي  الوهن يبعث في ألماً غريباً ومشاعر تتركني مذَبذَبة، أحاول التسلح بالصبر تارة وتغلبني الدموع أخرى، شعور العجز يعيدني إلى تلك الأيام العجاف التي عشتها مع تعب والدي قبل رحيله، موجات قلق تعبث بداخلي فأكفر أحيانا بالأمل وأيأس وأحزن جدا، لكني سرعان ما أرجع إلى الله وأؤمن  بأن كل ما يحدث هو فصل من حياتنا كُتِب علينا أن نَعيشَه، ورغم أننا نُمارس الهُروب من كل شيٍء إلا أننا لا نملك سوى التحمل والدعاء بأن يظل صوت أمي بيننا وأن يطهر جسدها من تلك الأمراض التي حّلت به بعد رحيل رفيق دربها.. فرحيل أبي أتعبني.. وصوت أمي الوهن أرهقني.

search