محاسن السنوسي
"الملك فاروق" شاهد علي قصة حب جدتي "ميما"
عائد بصيد سمين غزلان وتعالب وأرنب بري.. أهل الواحة في انتظاره، العمدة "سالم" بصحبته فتيات وشباب علي أطراف الواحة في استقبال "فاروق الأول" آخر ملوك مصر عائدًا من رحلة صيد – هوايته المفضلة- بالصحراء الغربية.. وسط ميدان "الزاوية" بقرية القصر إحدى قرى الواحات البحرية، يجتمع الأهالي من كل حدب وصوب، إنهم على موعد من كل عام زيارة "فاروق الأول".. الفرحة فرحتان، الأولى بقدوم الملك، والفرحة الثانية حفل زواج جماعي لفتيان وفتيات الواحة.
جدتي "ميما" كما كنت أناديها، تردد على مسامعي قصة حبها الأول والأخير. كلما جلست إليها في ساعة صفا تحكي لي حكايتها مع "الملك فاروق" وكيف كان شاهدا علي زواجها.. يالها من قصة رائعة أحن إليها في عيد الحب "الفلانتاين"، قد يعتقد البعض أن أعظم قصص الحب التي سجلتها المعلقات القديمة أو انتهت مع قيس وليلي، أو روميو وجوليت، وأغلقت أبواب الرومانسية ، إلا أن "ميما" كانت لها مساحتها بين العاشقين، حين قررت أن تتزوج بمن أحب قلبها وإن تأخر القرار قليلا.
منذ 75 عاما، وفي يوم من أيام شهر أكتوبر بعد صلاة الجمعة في مسجد "الزاوية" وقف الأطفال أمام أبواب المسجد حاميلن "أناجر" ممتلئة بـ"طبيخ اللبن"، أرز مطهي في لبن رايب مضاف له الملح، يتوسط الإناء"- الأنجر- سمن بلدي، أو زيت زيتون، من الطقوس التي يحرص عليها سكان الواحة إلي يومنا هذا تقديم "طبيخ اللبن" للمصلين بعد أداء سنة الجمعة.. كان بين المصلين "الملك فاروق"، وما ان انتهي الجميع من إلتهام الطعام، نادي العمدة "سالم بعد تقديم كلمات الترحيب بجلالة الملك": ياأهل الواحة اليوم نحتفل بزواج أبنائنا في حضور جلالة الملك.. كانت ترتيبات الزيارة والاحتفال بالعرس الجماعي أعدت مسبقا، وأبلغ العمدة أهالي الواحة بحضور الفتيات والفتيان من من بلغوا سن الزواج، ولا مانع أن تتزوج الفتاة في سن 11 والشاب في 16 ربيعا.. واقتربت لحظة إعلان الأسماء.. أمر العمدة الفتيات أن يقفن صفا بترتيب عشوائي، وكذلك الفتيان، والأهالي حدد لهم أماكنهم في نصف دائرة يتوسطهم العرسان، وعلي منصة في مقدمة الجمع الغفير يجلس "الملك فاروق" وإلي جواره شيخ البلد ينتظر إعلان الأسماء.. العمدة "سالم" بدأ بأول شاب يقف في الطابور وأعلن عن اسمه وعن الفتاة التي وقعت من نصيبه، حتى انتهى من آخر الطابورين، وهكذا يتم الزواج في حضور الملك وشهود الواحة، ثم يتقدم العروسين إلى الملك ومصافحته وتقبيل يده الذي بدوره يبارك زواجهما ويمنح كل فتاة خمسة جنيهات من الذهب هو مهر العروسة تعود به لوالدتها كي تعد لها جهازها من ملابس وزينة ، وباقي الجنيهات يأخذها الأب لإقامة وليمة العرس.
كانت "ميما" على موعد سابق مع فتى أحلامها "نور الليبي"، إلا أن الحبيب تأخر عن موعد حضور حفل الزواج الجماعي لانشغاله بموعد ري الأرض، يا له من حظ عثر جدول توزيع سقاية الأرض في موعد أبعده عن تحقيق حلم حياته.. وتأخر "نور" عن الموعد.
حاولت " ميما" أثناء حفل الزواج أن تقف في آخر الصف، إلا أن العمدة "سالم" أطلق النداء "سميحة بنت علي نجيم" يعقد زواجها على “علي أحمد أبوزيد”، باءت كل المحاولات الانتظار بالفشل ولم يتبقى في الطابور سوى "سميحة" وعلي" .. انتقلت "ميما" إلي بيت زوجها "علي" ابن القاضي "أحمد أبوزيد" .. مر عام علي زواجها من ابن القاضي ولم يرزقها الله بطفل، هنا قررت أن تبوح لزوجها بالسر الذي أخفته عاما كاملا وقالت له :"لم أكن أرغب في الزواج منك .. كنت أنتظر نور الليبي، ووقعت أنت من قسمتي ونصيبي"، كان رد "علي" أنا أيضا كنت أتمنى الزواج من "عويشة" جارتنا ولم أجرؤ أن أخبر أحد بذلك.. قررت "ميما" الذهاب إلى العمدة "سالم" وأخبرته برغبتها بعد مرور عام من زواجها بـ"علي"، فأمر بطلاقها، ومع انقضاء عدة الطلاق زوجها بمن أحبته، ذلك الفتى المهاجر من أقصى الغرب الليبي، برفقة أفراد من قبيلته ووالده "الشيخ عبدالسلام" رجل الدين الذي تتلمذ علي يد تلاميذ في مدينة زليطن "سيدي عبدالسلام الأسمر" الداعية الصوفي، الذي وهب حياته لنشر الإسلام الوسطي في لبيبا وشمال أفريقيا... كان عهد القبائل الترحال حيث الأمن والأمان بسبب اضطهاد الاحتلال الإيطالي لإقليم فزان والمرج وصولا إلي طبرق.
كان "نور الليبي" شاب وسيم ، اشتهر بارتداء زي القبائل الليبية وصاحب شعر كثيف أسود ينسدل علي كتفيه، يتدلى قرط من الفضة في إحدى أذنيه، وتزين الحلي غطاء رأسه كما كانت تخاف عليه أمه من الحسد..رغم أن الشاب المهاجر يحظي بإعجاب فتيات الواحة إلا أن قلبه انشغل بحب "ميما".. عاشت "ميما" وجدي "نور" لأكثر من نصف قرن، سبقها إلى دار الآخرة بسنوات.. حكايات "ميما" عن احترامها لزوجها علي مدار خمسين عاما تحتاج إلي رواية طويلة، عرفت الحب الحقيقي من هذه السيدة العظيمة البدوية، التي عاشت وماتت بعد التسعين من عمرها، تحكي بفطرة إنسانية سليمة .. إنها الفطرة التي سبقت كل الأعراف والقوانين والدساتير والأديان أيضا، .. كانت "ميما" مدرسة حياة، انتصرت لحبها في مجتمع لم يكن يملك أحد التعبير عن نفسه أم يفصح عن رغبته .. الرأي والكلمة كانت للأب أو للعمدة أوشيخ البلد.. كيف قطعت هذه الفتاة صغيرة السن كل هذه المسافات وانتصرت لمشاعرها واختيارها ..لقد تعلمت في مدرسة "ميما" ما لم أصادفه في حياتي..إنها قصة أروع من قصص حب قرأت عنها سأكتب روايتي "ميما" يوما ما، فلا يكفي مقالا عن هذه السيدة العظيمة.. تفاصيل أخرى سأرويها .وللحديث بقية!!
الأكثر قراءة
-
04:55 AMالفجْر
-
06:26 AMالشروق
-
11:41 AMالظُّهْر
-
02:36 PMالعَصر
-
04:56 PMالمَغرب
-
06:17 PMالعِشاء
أكثر الكلمات انتشاراً