الجمعة، 20 سبتمبر 2024

04:23 ص

"مساحة أمان".. مبادرة لـ"الونس" في "غابة الأسمنت"

إحدى رحلات الونس إلى واحة سيوة

إحدى رحلات الونس إلى واحة سيوة

منى الصاوي

A A

الساعة الآن الثالثة ظهرًا. كانت ضحى على وشك الانتهاء من ارتداء طرحتها، عندما سمعت صوت خطيبها، أحمد، يتحدث إلى والدتها. لقد وصل الفتى في موعده، حيث اتفقا على الذهاب سويًّا إلى وسط البلد، للمشاركة في “لقاء الونس”.

هذه هي مرة أحمد الأولى حضورا الونس، أما بالنسبة لـ"ضحى"، فقد حضرت عشرات المرات منذ 2018.

الحضور في أحد لقاءات الونس

مساحة أمان

“الونس”، لقاء ينظمه الصحفي، محمد طاهر، 42 عاما، ويديره أسبوعيًّا منذ نوفمبر 2017، فكرته أن “ناس مايعرفوش بعض، يحضروا، يتعارفوا، يفضفضوا، نلعب، نغني، نجعّر، نطرح مواضيع اجتماعية هادفة للمناقشة، والهدف الأساسي: هنا مساحة أمان"، حسبما يقول طاهر نفسه.

البداية كانت عبر “بوست” طرحه طاهر، يقترح فيه على “كل من يشعر بالوحدة” أن يتوجه إلى أي شخص يرتاح إليه، ويدعوه لفنجان قهوة، أو حفل تنورة، أو مسرح، أو تمشية لطيفة. منبّها إلى فضل التعامل بـ"نبل ونزاهة وأمان".

الـ"بوست" انتشر سريعًا، ليتحول لاحقا إلى لقاء أسبوعيّ، يحمل اسم الونس، عبره المئات من مختلف المحافظات، عبر السنوات، وتحول إلى “حالة إنسانية، عظيمة ومهمة وملهمة وفارقة"، كما تصفه ضحى.

أما بالنسبة لطاهر، فهو محاولة عملية للقضاء على شبح الوحدة، الذي يغزو آلاف الأرواح، وينهشها، ويقتلها في صمت، خصوصا في مدينة مزدحمة خرسانية ضاغطة، كالقاهرة، التي وصفها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي بـ“غابة أسمنت”.

“أهل الونس” في أحد اللقاءات

الأم الداعمة

تقف ضحى على باب الشقة، على وشك الخروج، تودع أمها، وتخرج مع خطيبها، الذي قرر الحضور معها للتعرف على هذا اللقاء الذي دائما ما تتحدث عنه بحماس وبهجة. يسألها، فتجيب: الونس ده غيّر حياتي.

تحكي ضحى، أنها تعرفت على الونس في نهايات 2018، وقتها كان والدها يعارض حضورها، لكن أمها كانت تسمح لها، وتعينها، حتى نجحت في إقناع الأب. عندما حكت هذا في أحد اللقاءات، أشاد الحضور بموقف الأم، التي احترمت رغبة ابنتها، وساعدتها. واقترحوا عليها الاتصال بوالدتها، وتحدثوا إليها جميعًا، شاكرين لها حسن تصرفها.

كان هذا الموقف، نقطة تحول كبير في علاقة ضحى بوالدتها، وجعل الأم تقرر الحضور بنفسها والمشاركة في لقاء الونس، بل واصطحبت معها ابنتها الأصغر.

واحدة من رحلات الونس

“لأ” كاملة وصريحة

موقف آخر، بطله لقاء الونس، غيّر كثيرا في حياة ضحى، عندما حكت في أحد اللقاءات عن شاب يلح عليها بمشاعره، يراسلها بالأغاني، يحاصرها باهتمامه طوال الوقت، يأتي لها بالورد، رغم تعبيرها عن رفضها لهذا الاهتمام.

كانت ضحى مشفقة على الشاب، ولا ترغب في إحراجه، وتتفهم مشاعره، لكنها تشعر بالاستياء والضيق إزاء إلحاحه، وعدم تقديره لرفضها المتكرر، وتعبيرها أنها ليست مستعدة لمثل هذا النوع من المشاعر. وكان تعليق أغلب الحضور أنها بحاجة إلى أن تقول “لأ” كاملة وصريحة وواضحة لا تحتمل اللبس، إذا لم يحترمها، فعليها أن تتخذ خطوات عملية لمنعه عن التعدي على خصوصيتها، واقتحام مساحتها الشخصية.

تحكي ضحى أنها فعلت هذا، كانت المرة الأولى في حياتها التي تعبر عن رفضها الكامل لشيء لا ترتاح إليه. وتقول: الموقف ده غيّر حياتي، بقيت بقول لأ كتير، ولأي حد، وبحمي حدودي كويس، وده حسسني إن طاقتي مش مهدرة، نجحت ف الجامعة، واشتغلت، وخدت خبرة ف وقت قصيّر، ورحت لشغل أحسن. لولا كلمة “لأ”، كنت عارفة إني هتسحل كتير في معارك عبثية".

أحد اللقاءات في وسط البلد عام 2018

قبول غير مشروط

الرابعة والنصف عصرًا، ضحى وخطيبها في لقاء الونس، بالدور العاشر في بناية قديمة تطل على البنك المركزي في وسط القاهرة. يتحدث طاهر في بداية اللقاء عن “فكرة الونس”، وسيرة حياتها، وينبه على القواعد الثلاثة الأساسية التي تحكم اللقاء.

أولا: القبول غير المشروط، كلنا جدير بالاحترام والقدير لمجرد كونه إنسان، مهما كان جنسك ولونك وأفكارك وقناعاتك وماضيك، ستجد هنا القبول الكامل، ومطلوب منك أن تقبل الآخرين.  وثانيا: الخصوصية، كل ما يقال في  الونس، يظل حبيس هذه الجدران، وننساه بمجرد انتهاء اللقاء. وأخيرا، من يتحدث منا نمنحه كامل انتباهنا وإنصاتنا، لأن هذا يشعره بالتقدير، وأن مشاعره مهمة.

بعد المقدمة المعتادة، يبدأ اللقاء بالتعارف، ثم فقرات للحكي، والفضفضة، ومناقشات اجتماعية، تتخللها فقرة "الجعير"، حيث يغني الجميع، مهما كانت صوتهم “نشازًا وغير محتمل". عادة تتحول هذه الفقرة إلى مشاهد ضاحكة، وغناء جماعي مفتوح.

في رحلة إلى سيوة

تجربة “تليجراف مصر”

التجربة خاضها "تليجراف مصر"، قبل أيام، كانت فقرة “الحكي” صعبة وثقيلة، فتاتان حكت إحداهما عن افتقادها لأبيها، والأخرى عن اشتياقها لأمها التي رحلت قبل عام. الكل ينصت بتركيز، وعلى الملامح تعاطف واضح، وتقدير للمشاعر، تتطوع بعض الحاضرات بتقديم “حضن” عميق للفتاة الموجوعة. لكن، المدهش أن تتحول هذه الملامح المتألمة إلى قهقهات وضحك متواصل بعد دقائق، إذ اقترحت إحدى المشاركات أن يحكي كل واحد موقفا ضاحكا تعرض له.

بعد الحكي، والجعير، تأتي فقرة "السؤال الدوار"، حيث يسأل طاهر سؤالا يتعلق بتجارب الحضور، مشاعرهم، تصوراتهم عن الحياة، ذكرياتهم. وكان سؤال هذه المرة عن “درس مهم تعلمته في علاقة مؤثرة في حياتك”، لتكون إجابات الحضور مؤثرة، ومفيدة للجميع.

مشهد معتاد في لقاءات الونس

لعبة السر

لعبة السر، واحدة من فقرات الونس، يلجأ إليها طاهر أحيانا، حيث يسجل كل منهم سرًا يخصه في ورقة صغيرة، دون أن يذكر اسمه أو أي بيانات تدل على شخصه، ثم يتم تجميع الورق، ولخبطته، قبل إعادة توزيعه عشوائيا، ليحصل كل منهم على سر شخص آخر، ومطلوب منه أن يحكي قصة قصيرة تتضمن هذا السر.. عادة ما تكون فقرة كاشفة، وعميقة.

بين كل فقرة وآخرى، يتوقف الونس قليلا، للجعير أو الغناء، يتحول الجميع إلى كورال، وتتحول الكراسي إلى طبلة، والتصفيق والصفارات تلعب دول الآلات الموسيقية.

في الإسكندرية

رحلات دهب وسيوة

في هذا اللقاء، تعرفت ضحى على مجموعة كبيرة من “أهل الونس”، تطمئن  بهم ولهم، وتثق أنهم بجانبها في أي وقت تحتاجهم، وتحرص أن يكون خطيبها جزءا من هذه الحالة، يعيشها ويحسها ويقبلها، لأنها لا تنوي الاستغناء عنها.

خلال هذه السنوات، خرج أهل الونس في رحلات متعددة إلى دهب، وإلى سيوة، والفيوم، وبورسعيد، والإسكندرية، رحلات تمتد من يوم واحد إلى أربعة أيام، دائما ما تكون عبارة عن خلية تفاعلية، تتيح للمشاركين احتكاكا أكبر ببعضهم البعض، ومن ثم الوصول إلى علاقات أكثر عمقا وصدقا.

"القبول" هو أهم ما يؤكد عليه الونس، ويشدد عليه، فـ حسبما يقول طاهر: علاقة واحدة تجد يها القبول الكامل، كفيلة إنها تداويك، وتغيّر حياتك.

search