الجمعة، 22 نوفمبر 2024

04:03 م

حسين القاضي

حسين القاضي

A A

الحالة النفسية للشيخ علي جمعة بعد الهجوم عليه

قد يصاب الشخص بالصداع، وارتفاع ضغط الدم، وتنتفخ أوداجه، وينقلب مزاجه، بمجرد تعليق ساخر أو شتم عابر على منشور له!!.. الشيخ علي جمعة -عضو هيئة كبار العلماء ومفتي مصر السابق- أكثر علماء عصره تعرضا للتشويه والتزييف والقذف والسّب، منذ 2003 إلى الآن، عشرين سنة متواصلة، وقد قال في سنة 2003 إنني أهاجَم يوميا من خلال ثلاثين وسيلة إعلامية، وتخيل كم وصل العدد مع وجود الفيس بوك وتوتير.

ووسط كل هذا التشويه فإن حالته النفسية تدعو للعجب، وتحتاج إلى علماء نفس لدراستها، ونرصد هنا 10 نقاط:

الأولى: أيام حظر التجوال، كان معرضا للقتل من الإخوان والتنظيمات السلفية، علاوة على التهديد بخطف بناته، ومع ذلك كان يذهب إلى برنامجه مع الإعلامي خيري رمضان بسيارته الخاصة دون سائق أو حراسة، ودون تأجيل أو اعتذار.

الثانية: في محاولة اغتياله من حركة حسم الإخوانية في 2016، قبل صعوده المنبر، أصر على إلقاء خطبة الجمعة، بعد محاولة الاغتيال بدقائق، ورائحة الرصاص ما زالت تملأ المكان، وبالفعل ألقى الخطبة، والمجرمون واقفون حول المسجد، وجعل موضوعها عن الإرهابيين والمجرمين والقتلة، هذا الثبات النفسي، وتلك الجرأة جديدة في تاريخ الإنسانية، لأنه لم يهتز أمام (شهوة البقاء في الدنيا) التي هي أعظم شهوة خلقها الله، مع قدرته على إلغاء الخطبة، أو الانتظار حتى يضمن انصراف الإرهابيين، وهذا ثبات يحتاج دراسة من علماء النفس.

الثالثة: حين زار المسجد الأقصى، وبينما كان التشويه والهجوم على أشده، إذا به يجلس وسط تلاميذه، يشرح لهم الإحساس الروحاني والنفسي الجميل، الذي شعر به وهو يقف في الموضع الذي صلى فيه رسول الله بالأنبياء في رحلة الإسراء.

الرابعة: طوال 20 سنة من التشويه والافتراء الحركات المتطرفة عليه ليل نهار، لم تتأثر قدرته على الإنتاج، بل زادت، فقد ألف الكتب الكثيرة، وسافر المؤتمرات، وناقش الرسائل، وألقى الدروس والمحاضرات، واستمرت برامجه في التلفزيون، والرياح العاتية لم تطفئ سراج عقله، ولم تؤثر على همته ونشاطه، وزادته نشاطا وحيوية، فأسس أكبر جمعية خيرية في مصر (مصر الخير)، وأسس الطريقة الصديقية ..إلخ.

وهذا الأمر ينبغي دراسته من زاويتين: 1-كيف أن الافتراء والتشويه زاد من همته ونشاطه، وليس العكس. 2-كيف أن الوقت عنده فيه كل هذه البركة.

الخامسة: أنه وسط هذه الأجواء يُطلق النكت والقفشات ومواقف خفة الدم، بصورة عجيبة، بما يعني أن التشويه لم يؤثر حتى في جريان النكتة وخفة الدم على لسانه، مما يعنى عدم التأثر نفسيا لا من قريب ولا بعيد، وهذه حالة فريدة في الثقة والثبات قد لا تتوفر لشخص واحد من بين ملايين الأشخاص على مر السنين. 

نقل لي أحد معارفه أنه يقول: (أنا لا أهاجِم ولا أدافع)، أي لا أرد الهجوم بالهجوم لأشخاص من هاجموني، ولا أدافع عن نفسي، فأين علماء النفس من: الغزالي، وابن سينا، وألفريد أدلر، إلى محمد المهدي، وأحمد عكاشة، ورشدي فام، والرخاوي، وشاكر عبد الحميد، وإبراهيم الفقي..إلخ، ليسجلوا.

السادسة: أنه يرفض الظهور الإعلامي لمجرد رد التطاولات أو حتى توضيح الإشكالية (أرى ضرورة ظهوره ليشرح بعض الإشكاليات)، والأغرب أن الصحفيين الذين ينشرون عنه نصا مجتزأ لأجل الإثارة، لم يطلب من رؤساء تحرير هذه الصحف ومالكيها، -وعلاقته بهم طيبة- لم يطلب منهم وقف هذا التزييف على صحفهم.

السابعة: أنه لم يتوقف، فجاء برنامج (نور الدين)، للاشتباك في مسائل عصرية جديدة، طرحها للكبار والأطفالن مثل: من خلق الله؟ الحجاب، الصداقة بين الجنسين، البناء على الأراضي الزراعية، دخول الجنة لغير المسلم، والحسد والسحر، التجميل، تجارة العملة، السوق السوداء، تلاعب المحامين بالقضايا، ألعاب الكمبيوتر، الانتحار.

الثامنة: أنه لم يهرب إلى (المنطقة المريحة الآمنة)، كعادة معظم الشيوخ والدعاة، طلبا للسلامة، والمنطقة المريحة هي منطقة الركود، والخوف من المواجهة، هي منطقة الرتابة والاسترخاء، والرغبة في تجنب التحديات، فالشيخ لا يتحسب آراء الناس، ولا سطورة الجماهير، ولا ارتفاع صوت الغوغائية، ولا يعبأ بالقليل والقال، فلم يحجم عن النزال، لكنه خاض الغمار، ونحت الأفكار في الميدان، لئلا ينفتح المجال للعابثين والمتطرفين، ويرتفع صوت الرجعيين والظلاميين.

كل ذلك مع علمه بأن الخصم فاقد لشرف الخصومة، يكذب كما يتنفس، سبق أن سب الشيخ الشعراوي بألفاظ الحطيئة الشاعر، ودعبل السباب، واتهم شيوخ الأزهر في  أعراضهم، ومارس القتل والتكفير،  فالدكتور لم يفر إلى المنطقة المريحة، طلبا للسلامة،  لكنه انغمس بكليته في التجربة الإنسانية، لأن فرار العالم من مواجهة الظلاميين ترقى لكونها خيانة لأمانة العلم، في عالم لم يعد فيه موطىء قدم للعاجزين، وأضحى اليوم كشف زيف مناهج التيارات المتشددة والإلحادية هو الفقه الأكبر.

التاسعة: وهي أعجب العجائب، وبتعبيره هو: (حاجة تخلي الأقرع يشد في شعره)، لأن المعتاد والمتوقع أن الغضب، والعصبية، والحدة، والنرفزة، وهيجان العاطفة، والتأجج، والتشنج، وفساد المزاج، وتغير الطباع، وفوران الدم، والعدوانية، والإحباط، واليأس، وفقدان الأمل، والاستثارة النفسية الزائدة.. كل هذه الانفعالات الصاخبة، المفترض أنها تُصيب الشخص الذي وقع عليه الهجوم، فإذا بنا نراها أصابت المهاجمين من الأفراد، أو من الحركات الإسلامية!!! فالمهاجمون له هم الذين أُصيبوا بالانفعال الصاخبة، وأضحت العصبية والغضب والحدة والنرفزة وهيجان العاطفة والتشنج وفساد المزاج، ملازمة لمن هاجموه، حتى استعار بعضُهم بعضا دون جدوى.

نزَفَ البُكاءُ دموعَ عينكَ فاستعر... عيناً لغيركَ دمعُها مِدرارُ

العاشرة: أن محاولات الإساءة والافتراء والتشويه المستمرة ضده على مدار 20 سنة ليل نهار، يجب أن تكون قد أدت هدفها  بإقناع الناس بوجهة نظرهم جهة بأن الشيخ جاهل وضال ومنافق ومبتدع ومحارب للإسلام، وخفت صوته، فما دلالة استمرار الهجوم عليه بكل هذه الضراوة والاستمرارية.

 الجواب: أن العقل الباطني لهؤلاء يؤكد ويحس ويجزم -وهو صادق في إحساسه- أن تأثير الشيخ مستمر وبقوة، وأن نتائج التشويه والقتل المعنوى نتائج لحظية، سرعان ما تختفي وتذوب وتذبل، والعجيب أن الصوت السلفي (يعقوب ومحمد حسان نموذجا)، هو الذي خفت واختفى وزال، وبدون هجوم أو تشويه، وأما الإخوان فلم يعد له صوت علمي، بعد وفاة القرضاوي، التي جاءت ذكرى وفاته الأولى، ونست الجماعة إحياءها!! وأما داعش فيقول زعيمها في أفريقيا، أبو مصعب البرناوي، في جريد النبأ الداعشية، العدد 41، ص9 : "إن أشد ما يضرنا وصفنا بأننا خوارج العصر"، (وهو الوصف الذي أطلقه الشيخ علي جمعة). 

بقي عدة تساؤلات:

1-هل هذا الثبات النفسي الهائل محفوف بنقاء الباطن، وتزكية النفس، بمعنى أن طرحه ليس منعزلا عن عوامل التنوير والربانية والبصيرة ونقاء السريرة، بصرف النظر عن تأييد أو رفض بعض ما يقوله؟

2-هل لأنه يؤمن بأن العطاء من الخلق حرمان، ومن ثّم لا يستشعر أصلا أن شيئا مفقودا اسمه طلب الثناء والمديح، ولا يستشعر شيئا موجودا اسمه الافتراء والتطاول؟

3- هل لأنه شاهد بعينه رجوع من هاجموه إلى كلامه الذي هوجم فيه؟ فقد هوجم بسبب: صوت المرأة، وختان الإناث، والبنوك، وانحراف منهج الإخوان، ثم رجع المجتمع كله ليأخذ بكلامه في أن: صوت المرأة ليس عورة، والختان ضار، والإخوان جماعة منحرفة، وهلم جرا؟

وفي الختام أسجل الآتي: 

1-أن مؤيدي الشيخ وتلاميذه كثيرون، منهم العلماء والقضاة والمفكرين والمفتون والأئمة والأكاديميين والمثقفون.

2-أتحدث هنا عن التطاول والإسفاف، وأما الاعتراض على الشيخ بالنقد العاقل، والرد العلمي، والحجة والبرهان، من أولى النظر والاجتهاد والتخصص، فقبوله بالثبات النفسي أمر طبيعي لا مزية فيه.   

3-أننا أمام طرح يُمثل منهج الأزهر تمثيلا صادقا، بقطع النظر عن الاختلاف في مسائل فرعية، بسبب سوء فهم متعمَد من المتلقي، أو بسبب عدم توفيق من الشيخ، لكن المقصود أن الشيخ ليس باحثا عن  الإثارة، ولكنه باحث عن بناء الوعي، وغربلة التراث، وإحالته حيا متوقدا.

4-أن تلاميذ الشيخ ومحبيه -والصوفية عموما- نعم لم ينحدروا إلى الإسفاف والسخف والسفه واستباحة الأعراض، التي انحدرت إليها التيارات السلفية والإخوانية- لكنهم أيضا لم يتصفوا بالثبات النفسي كشيخهم، ويستثنى من ذلك تلميذه العالم الشيخ أسامة الأزهري، إذ فيه نفس صفات شيخه هذه.

search