الجمعة، 20 سبتمبر 2024

12:50 ص

حسين القاضي

حسين القاضي

A A

لماذا يُحب المصريون سورتي "يوسف ومريم"؟!

من السور القرآنية التي أحبها المصريون بشدة سورتي يوسف ومريم، ويكاد معظمهم  يحفظون قدرا كبيرا من السورتين، لعدة أسباب، منها إبداع الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في سورة يوسف، وإبداع الشيخ محمد صديق المنشاوي لسورة مريم، (والشيخان من الصعيد) وهو ما يتناوله هذا المقال.

من ضمن هذه الأسباب أن سورة يوسف لها أسلوب فذ فريد، في ألفاظها وتعبيرها وأدائها، وفي قصصها الممتع اللطيف، فهي تسري مع النفس سريان الدم في العروق، وتجري برقتها وسلاستها في القلب جريان الروح في الجسد، فهي وإن كانت من السور المكية التي تحمل في الغالب طابع الإنذار والتهديد والوعيد، إلا أنها اختلفت عنها في هذا الميدان، فجاءت السورة طريةً نديِّةً، في أسلوب ممتع لطيف، سلسٍ رقيق، يحمل جو الأنس والرحمة، والرأفة والحنان، ولهذا قال خالد ابن معدان: "سورة يوسف ومريم مما يتفكه بهما أهل الجنة في الجنة، ولا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح لها".

فسورة يوسف تبشِّر بالنصر لمن تمسك بالصبر، فهي سلوى للقلب، وبلسم للجروح، واشتملت على حاسد ومحسود، ومالك ومملوك، وشاهد ومشهود، وعاشق ومعشوق، وحبس وإطلاق، وخصب وجدب، وذنب وعفو، وفراق ووصال، ومرض وصحة، وسفر ورجوع، وذل وعز، وقد أفادت أنه لا دافع لقضاء الله تعالى، ولا مانع من قدره، وأن الحسد سبب الخذلان، وأن الصبر مفتاح الفرج، وغالب من جاءوا في  سورة يوسف كان مآلهم إلى السعادة".

لقد تألق الشيخ عبد الباسط وأبدع في سورة يوسف، ونقلت لنا حنجرتُه الذهبية نبضات امرأة العزيز، وتلويها وإنكسارها، وهو يتلو (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ)، معبِّرا عن أساليب الإغراء التي اتخذتها امرأة العزيز مع الغلام الجميل يوسف، وحمل صوت الشيخ أبعادَ المأساة، مأسأة أب ملكوم، لا يملك إلا الصبر الجميل، ومشاهد متتابعة تعيشها مع الشيخ عبد الباسط.. من البئر إلى القصور إلى الحسناوات إلى السجن إلى المُلك.

لقد جاءت تلاوته في سورة يوسف متسمة بالسهولة والوضوح، وخلت من كل أشكال التعقيد النغمي، مع صوت قوي، ونفس طويل جدا، وذبذبات سريعة، في متناول فهم المستمع العادي، وبهذا الصوت الآسر، عبَّر عبد الباسط عن نبي الله يوسف ورحلته، ورفع صوته بقوة معلنًا: (وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ )، ليقول ليعقوب: إن الله قد قضى عليك أن تصل إليك تلك الغموم الشديدة، والهموم العظيمة، ليكثر رجوعُك إلى الله، وينقطعَ تعلق فكرك عن الدنيا، فتكونَ في درجة عالية من العبودية، لا يمكن الوصول إليها إلا بتحمل المحن الشديدة، وأن الله حكيم لا يجهل، وعالم لا يغفل، وعليم لا ينسى.

لقد كان عبد الباسط سببا في زيادة الإقبال على شراء أجهزة الراديو عند انضمامه إلى الإذاعة عام 1951، وسببا في حب القرآن الكريم، وسببا في حب الناس لسورة يوسف.

كما لن تنس مصر والصعيد والعالم الإسلامي بكائية الشيخ محمد صديق المنشاوي، في سورة مريم، الله الله.. حين يشارك المنشاوي السيدةَ مريم العذراء عذابَها النفسي قبل البدني، وهي تعاني آلام المخاض، وفضيحتها المنتظرة  بلا أي ذنب (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا )، فضيحة عند الأفَّاقين فقط، وإنما في حقيقتها ليست فضيحة، ولكنها هبة ومنحة وعطاء، لقد غمس المنشاوي في حروف تلاوته كلَّ آلمه وآلام السيدة مريم، وأخرج مشهد هز جذع النخلة، ووضع الصبي، في أجمل صورة تستريح لها النفس، مع القيمة الفنية، والسبكة القوية، والتزام نمطا صارما من الوقار والأدب والجمال، وهو بين يدي مريم وابنها المسيح، وتجلى المنشاوي حين نادى ( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ)، ولن تجد السيدة مريم من يعبر عن آلامها وحالتها وآمالها وعواطفها ومشاعرها كالشيخ محمد صديق المنشاوي.

وفي المسجد الأموي بدمشق 1958، جاءت التلاوة الشهيرة لعبد الباسط من سورة مريم والتكوير، صوتٌ معجز، وبحةٌ ساحرة، يأتي بها في مواضع طبيعية دون تكلف، بدأ الشيخ هادئا ثم تعالت صيحات الجماهير عقب كل جملة يرسلها من حُنجرته برواية ورش عن نافع: (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۚ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)، بصفاء حنجرته، وثبات صوته، وسرعة نبراته".

وفي سورتي يوسف ومريم ما يجذب المستمع، باختلاف طفيف عن سورة الكهف:

1-ففي سورتي يوسف ومريم تعيش مع شخصيات معروفة: (يوسف – يعقوب -مريم – عيسى – زكريا – يحيى)، أما في الكهف فالأسماء مبهمة: (أصحاب الكهف- ذو القرنين- العبد الصالح).

2-حجم السورتين لا هو طويل كالبقرة وآل عمران، ولا قصير كالشمس والضحى.

3-أن السورتين تكاد تخلوان من الأحكام الشرعية (على عكس سورة النساء والطلاق والنور مثلا)، التي تحمل أحكامًا صارمةً تجعل التغني والطرب وإمتاع السامع صعبا.

بقي أن نشير إلى أن عددا من القُراء الكبار شدوا بألحان السماء في سورتي يوسف ومريم، كالشعشاعي، ومحمد رفعت، ومصطفى إسماعيل، وأن حبَّ السورتين منتشر في العالم الإسلامي كله، لكن في مصر وصعيدها بصفة خاصة.. والله أعلم.

مصادر هذا المقال بتصرف من:

-مقال مهم لخالد عميرة، بعنوان (ماذا فعلت بنا يوسف وكيف عشقنا مريم) مجلة داليدا، 2016.

-تفسير الفخر الرازي.

-تفسير الصابوني.

-تفسير الألوسي.

-مقال للكاتب هيثم أبو زيد عن الشيخ عبد الباسط.

search