في مقابر الغرباء.. روح نهى سالم تبحث عن حق الـ99.99%
الدكتورة نهى سالم
لم يكن "يحيى" في حاجة إلى الطب الشرعي التركي ليكتشف أن الجثة المشوهة التي وجدوها مطعونة ومنزوعة الأظافر ومقصوصة الشعر ومشوهة الوجه، وملقاة في منطقة غابات بيرم باشا بإسطنبول يوم 17 مايو الماضي هي جثة الدكتورة نهى سالم. تمكّن يحيى من التعرف عليها من النظرة الأولى، لأنها أمه!
نتيجة الحمض النووي للأم والابن متطابقة بنسبة 99.99%، فأين ذهب الـ01%، لماذا أسقطته الأجهزة الحديثة من حساباتها الدقيقة، أليست أمه بالكامل، لم تشاركها في حمله امرأة أخرى؟!
"متطابقان في الحمض النووي يا أمي، لكننا مختلفان في كل شيء وعلى أي شي ما دون ذلك" هل كان يحيى يفكر بتلك الطريقة وهو يطلع على النتيجة، هل تذكر الأشياء اللطيفة التي كانت تفعلها معه حين كان صغيرا؟.. وهل مرت صور معاناتها معه حين يمرض، وسعادتها عندما تعلم بنجاحه وقلقها عليه إذا تأخر عن البيت، وهو يهيل عليها التراب في مقابر كيليوس للأجانب، هل بكى عليها؟!
هل قرأ يحيى على روح والدته الفاتحة؟.. وطلب لها الرحمة من الله باعتبار أنها أمه؟.. أم أنه أفتى لنفسه أن الرحمة لا تجوز عليها وهو ينصرف وأنها لا تستحق إلا اللعنات؟.. وهل أدرك يحيى عندما أدار ظهره لقبر أمه أن الـ01% هو نسبة الخلاف بينهما (خلاف على الآخرة وليس على الدنيا كما وصفته نهى).
قصة تبحث عن سيناريست
قصة الدكتورة نهى ليست في حاجة إلى أكثر من سيناريست يصوغ أبعادها الاجتماعية والدينية والإنسانية، ويرصد علاقاتها بالزوج والأبناء، حياتها الأولى التي ارتدت فيها النقاب وأقنعت أختها بارتدائه، ومبادرتها الإنسانية التي تنصح فيها الناس بعدم إلقاء المخلفات على الأرض، وصولا إلى ثورتها الفكرية التي أدت إلى خلع النقاب، والتمرّد على قناعات العائلة الدينية.
سيناريست لا ينحاز إلى فريق ضد فرد، ولا حتى إلى نهى ضد الزوج والأبناء والأخت، فقط يرصد ما حدث دون أن ينصب نفسه قاضيا، وجلادا، فالقضاة حكموا عليها فعلا، والجلاد نفذ الحكم بأبشع طريقة ممكنة، وأبدع في دمويته.
داخل عائلة متشددة، نشأت دكتورة التخدير المصرية نهى محمود سالم، لتسير في ركابهم، ولا تكتفي بالحجاب، ولكنها ارتدت الخمار وأقنعت أختها به، كانت حياتها تسير على ما يرام، إلا أنها انقلبت فجأة على كل الأفكار الدينية التي تلتزم بها، ونظرت إلى الدين بـ"عقلانية" وفق وصفها، وخلعت النقاب، وصارت تدعو إلى معتقداتها في البرامج التلفزيونية.
ترى أن الله موجود، لكنه لا يتدخل في شؤون خلقه، تنكر وجود سيدنا جبريل وتعتقد أن الأنبياء من قاموا بتأليف الكتب السماوية، وفي الوقت نفسه تنظر إلى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم- على أنه "رجل عبقري، وإنسان عظيم، وفيلسوف، وقائد عسكري ممتاز، واستثناء في التاريخ الإنساني"، وأنها تأخذ ما يناسبها في الآيات القرآنية وتترك ما لا تؤمن به.
شجاعة مؤقتة
اتخذت الدكتورة نهى محمود سالم من الكاتبة الراحلة نوال السعداوي أمَّا فكرية، وقالت في مقطع فيديو: "هموت زي ما نوال السعداوي ماتت، منتظرة الموت كل لحظة وكل يوم... الموت حقيقة لا جدال فيها، إحنا مختلفين على ما بعد الموت...".
شجاعة مؤقتة أنكرتها في لقائها الشهير مع ريهام سعيد وهي تقول "مش عايزة اتقتل زي فرج فودة، مش عايزة اضّرب في إيدي زي نجيب محفوظ".
لماذا خلعت النقاب؟
ألفت نهى كتابا أطلقت عليه "لماذا خلعت النقاب"، كشفت فيه عن الأذى الذي تعرضت له من أبنائها وزوجها وشقيقتها بسبب انتقادها للنقاب، وفي المقدمة قالت إن زوجها السابق وأبو أولادها ينتمي لجماعة الإخوان، وكذلك أحد أبنائها، فيما يعتنق آخرون من أبنائها وشقيقتها المهندسة، فكرا دينيا متشددا، وفق تعبيرها.
طلبت من الذين يقرأون كتابها أن يشفقوا عليها، وأهدتهم كتابها ضمن آخرين "إلى كل الذين تألموا وتحملوا من العذاب والمعاناة فوق احتمال البشر بسبب تحولي الفكري من الأصولية إلى العقلانية العلمية، والذين أرجو أن يعذروني ويسامحوني ويتعاطفوا معي ويشعروا بالشفقة من أجلي بعد قراءة كتابي".
خاطبت أولادها وزوجها وأختها وهي تذكرهم بالعشرة التي بينهم "إلى ابني الأكبر الأصولي الذي رفض إقامتي في منزله، وخاف على زوجته أن تتأثر بالعقلانية التي أعتنقها، وإلى ابني الأوسط الأصولي الذي أفسد حياته الوسواس القهري ولا يستطيع الشفاء منه بسبب الطقوس الدينية".
"إلى ابني الأصغر الإخواني الذي قاطعني ورفض أن يسلم علي ويقبلني منذ سنوات عديدة عجزت عن عدها حتى هذه اللحظة، بسبب تحولي إلى العقلانية، وإلى أختي المهندسة المنتقبة التي كنت أنا سبب في ارتدائها النقاب وأشعر بتأنيب الضمير والمسؤولية لعدم استطاعتها الخروج من الفخ والمصيدة مثلي".
"إلى أختي الصغرى المهاجرة في كندا، والتي تصمّم على ارتداء الحجاب، وعلى تنشئة أولادها الثلاثة على الطقوس الدينية غير العقلانية، وإلى أبو أولادي وزوجي السابق الإخواني، الذي ضحى بعشرة وحب طيلة 25 عاما زواجا وكفاحا مشتركا على الحلوة والمرة، وأحال حياتنا الزوجية جحيما لا يطاق، لأنني تحولت إلى العقلانية، وانتهت قصة حب طويلة بسبب الآية (ولا تُمسكوا بعصم الكوافر)".
المحطة الأخيرة
اختارت طبيبة التخدير تركيا لتبدأ على أرضها حياتها الجديدة مع زوج جديد (مترجم مصري من طنطا يبلغ من العمر 45 عاما ويمارس نشاطا تجاريا في إسطنبول)، إلا أن خلافات نشبت بينهما بعد أن طالب الشاب الطنطاوي المرأة العجوز (64 عامًا) بمنحه المال.
صدمة غير متوقعة، وحالة من الخداع لا يليق بعمرها، في حين لم تكن تتوقع أن مفاجأة أكبر في انتظارها، وأن هناك من يترصّدها، ويجهز أدوات تعذيب كاملة لنزع الأظافر وقصّ الشعر وتشويه الوجه قبل أن يقتلها ويلقي بجثتها عارية حتى لا يتعرف عليها أحد.
مع بداية شهر مايو الماضي سافرت نهى من الإسكندرية إلى تركيا في رحلة سياحية، لكنها اختفت بعد ما يقرب من أسبوعين، ليطلب ابنها من السلطات البحث عنها، وبعد أسبوع من التفتيش وُجدت ملقاة بدون ملامح تحت شجرة بحديقة في إسطنبول، ليتم التعرف عليها بالحمض النووي مع ابنها يحيى.
ماتت نهى، كما لم تتمنى، ماتت غريبة ودفنت في مقابر الغرباء، ودفنت بجوار موتى لا تعرف منهم أحدًا ولا تعلم عنهم شيئا، فيما تستمر حياة أولادها وزوجها وشقيقتها والحبيب الذي تعاملت معه على أنه قشة الإنقاذ وتخلى عنها، ماتت بينما ما تزال المحكمة منصوبة والقضاة لا يتوقفون عن إصدار الأحكام من أجل الانتصار لـ01.%.
-
05:04 AMالفجْر
-
06:36 AMالشروق
-
11:45 AMالظُّهْر
-
02:36 PMالعَصر
-
04:54 PMالمَغرب
-
06:17 PMالعِشاء
أحدث الفيديوهات
أخبار ذات صلة
منذر الكبير: الأهلي المرشح الأول للفوز بدوري أبطال أفريقيا (حوار)
04 ديسمبر 2024 03:02 م
ما جرائم 3 مصريين حُكم عليهم بالإعدام في السعودية؟
04 ديسمبر 2024 02:09 م
كوريا الجنوبية غارقة في أزمة غير مسبوقة بعد إعلان حالة الطوارئ
04 ديسمبر 2024 03:54 ص
"حمادة ملوش في الصيني".. هل يعمل موظفو الصين 12 ساعة يوميا؟
03 ديسمبر 2024 12:03 م
"الذهب الأخضر" ينمو في دندرة.. أسرار زراعة البصل
03 ديسمبر 2024 02:17 م
من كرسي متحرك لمقعد الرئاسة.. "روزفلت" قصة ملهمة في يوم ذوي الإعاقة
03 ديسمبر 2024 01:11 م
رسوم على المصريين بالخارج.. فكرة قانون تنتهي بـ"بلاش وجع دماغ"
03 ديسمبر 2024 09:41 ص
بعد نصيحة "حمادة".. هل التوزان بين العمل والحياة "دلع"؟
03 ديسمبر 2024 11:03 ص
أكثر الكلمات انتشاراً