الجمعة، 22 نوفمبر 2024

04:23 ص

محمد فودة
A A

نذالة صحفي.. وأميرة!!

تلتهم مهنة الصحافة الرصيد الأخلاقي لدى كثير من العاملين بها، وهناك عشرات القصص التي يمكن أن تروى عن صحفيين باعوا ضمائرهم من اليوم الأول، وكانوا متسقين للغاية مع انحطاطهم ووضاعة أنفسهم!

لا شك أنها مقدمة قاسية، لكنها واقعية بكل أسف، فهذه المهنة لا تعطي كثيرًا للمخلصين، الشغوفين الذين يكرسون حياتهم لها، وكم من نماذج لزملاء من أجيال سابقة وحالية عانوا كثيرا بسبب قبضهم على الجمر في زمن الشك!
وبقدر ما أتعامل بواقعية مع الظروف التي تحيط بنا كصحفيين، بقدر ما يتملكني شغف غير محدود لتقديم صحافة مستقلة، منحازة للمعلومة الدقيقة، والتحقيق العميق المتكامل، تحترم عقلية القارئ، وتساعد على تنويره، وأقصد بالتنوير هنا تزويده بما يخفى عنه من حقائق حتى يستطيع تكوين رأي سديد، واتخاذ موقف مناسب!
قد أبدو حالمًا بعض الشيء، لكني لن أملّ من المحاولة، فيكفيني هذا الشرف، خصوصًا وأن الأساتذة العظام الذين أقتدي بهم في هذا المجال، لم يتوقفوا عن المحاولة.
كنت أشاهد أمس، إحدى حلقات مسلسل التاج "The Crown" - وهو بالمناسبة عمل درامي عظيم أرشحه لكم- واستوقفتني قصة الخديعة التي تعرضت لها الأميرة ديانا على يد أحد مراسلي ومقدمي البرامج في هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، يدعي "مارتن بشير"، إذ لجأ إلى تزوير وثائق بالغة الخطورة لإقناعها بأنها تتعرض للتجسس من أقرب مساعديها، بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية في القصر والاستخبارات البريطانية، وذلك لتشجيعها على إجراء حوار معه.
وعلى الرغم من أن شقيقها - الذي رشحه لها في البداية تراجع لاحقًا- وحذرها منه، فإنها كانت في أصعب لحظات ضعفها، وأقنعها الصحفي - بكل نذالة- بأنه القشة الأخيرة التي يمكن أن تتعلق بها، فأجرت معه حوارًا صادمًا سنة 1995 كشفت فيه أسرارًا بالغة الخطورة، منها أن زواجها كان بين ثلاثة أشخاص، هي والأمير تشارلز وعشقيته كاميلا باركرز!
الجريمة الكبرى في هذه الواقعة، تتمثل في دور هيئة الإذاعة البريطانية ذاتها، لأن “بي بي سي” كان مشهودا لها بالنزاهة، والمصداقية البالغة، لكن تضرّرت هذه السمعة إلى حد كبير لأن مديري المحطة كانوا على علم قبل إذاعة الحوار بأن الصحفي انتهك الميثاق المهني، واستخدم أساليب ملتوية، تصل إلى تزوير فواتير وإيصالات بنكية.
اخترت نموذجًا مشينًا من مؤسسة صحفية كانت نموذجًا في المهنية والنزاهة، لأوضح أن الفساد يطال الجميع بنسب متفاوتة، وجريمة الصحفي ربما تكون أكثر خطورة وتدميرًا من غيره، لكن طالما توفّرت المحاسبة يمكن أن تستقر الأمور في مكانها الصحيح!
وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يقول إن "المعلومات والمعرفة أدوات قوية. وإن الصحافة الحرة والمستقلة هي المؤسسة الأساسية التي تربط الجمهور بالمعلومات التي يحتاجونها للدفاع عن أنفسهم، واتخاذ قرارات مستنيرة، ومحاسبة المسؤولين الحكوميين”.
اعتبر واضعو الدستور الأميركي حرية الصحافة ضرورية للغاية، لدرجة أنهم حافظوا على قدسيتها في التعديل الأول للدستور الأميركي كجزء من وثيقة الحقوق (1791)، التي تكفل الحقوق الأساسية لكل فرد ضد تجاوز الحكومة.
وعلى الرغم من ذلك، ظهر الانحياز جليا في تناول وسائل الإعلام الأمريكية لحرب غزة، وما يتعرض له أهلها من إبادة ممنهجة، بما يتناقض كليًا مع القيم التي رسّخها دستور الولايات المتحدة، سوى اللهم بعض الصحف والمنصات التي تحاول بصعوبة التمسك بحياديتها!
بغضّ النظر عن الواقع، من المفترض أن تكون الصحافة “السلطة الرابعة” أو الفرع الرابع للحكومة لأنها تجسد الدور غير الرسمي في تزويد المواطنين بالمعلومات التي يمكنهم استخدامها للتحقق من سلطة الحكومة.
وكنت ولا زلت أنصح الحكومات بضرورة ترسيخ سلطة الصحافة، لأنها مرآة المجتمع، وبواسطتها فقط يمكن تصحيح المسار إذا انحرف، كما أنها متنفس مهم ووحيد للشعب بشرط أن تكون مستقلة وغير منحازة قدر الإمكان.
حين لا يجد الناس من يعبّر عنهم بصدق ونزاهة، يتجهون إلى بديل أكثر تطرفًا وكذبًا، وهذا سلوك سيكولوجي لا يمكن أن يلاموا عليه، لذا أثق أن الدولة سوف تستوعب أهمية هذا الدور، وتعززه حتى يتواكب مع نهضتها صحافة متزنة مدركة لأهمية دورها..
 

search