الأحد، 08 سبتمبر 2024

04:38 ص

إسلام أبو النجا

إسلام أبو النجا

A A

اختفاء غوازي الغجر وتامر حسني

دخل الغجر مصر سنة 1546 في عهد الدولة العثمانية. عاشوا منغلقين في مجتمعات منعزلة على أطراف المدن والقرى دون اندماج برغبة مشتركة مع الأهالي لسلوكياتهم ومظهرهم الغريب عن المجتمع، وقد استمروا في عملهم تقديم فقرات التسلية بأشكال متنوعة دون طمع مادي، فكانوا يحصلّوا مبالغ زهيدة تدفع على سبيل التعاطف والصدقة.

استعراضات متنقلة

كان منهم (القرداتي) صاحب القرد المدرب على الألعاب البهلوانية الذي يطوف معه الحارات والقرى ليؤدي الاستعراضات الطريفة ويكون غالبية مشاهديها من الأطفال.
ومنهم (الحاوي) الذي يقف فى الأسواق أو الميادين وينادي أثناء تأديته بعض الحركات الجذابة، فيجتمع الناس مشكلين دائرة من حوله مستمتعين بفقراته العجيبة وخفة يده المريبة، وفي نهاية الاستعراض يقوم مساعدوه الصبيان بجمع ما يجود به المشاهدون في رقّ مفروش داخل تجويفه منديل أبيض، ويشخللون بصاجاته لتحفيز الناس على الدفع.

نشر البهجة

لكن أهم ما قدمه الغجر  كان الفرق الاستعراضية الجوالة بقيادة “الغازيّة”، التي ترتدي ملابس مزركشة زاعقة الألوان، مليئة بالترتر البراق، كاشفة عن مفاتن جسدها بجراءة، ويصاحبها مجموعة محدودة من العازفين الرجال، أما  إذا كان الحدث يستحق يكونوا مجموعة من الغوازي، في الغالب يكونوا من أسرة واحدة، يطوفوا القرى خلف الموالد والأفراح  بعربة تجرها الخيول.

تقوم الغازية بنشر أجواء البهجة بين الناس بعد تخليصهم من التحرّج بخبرة ودهاء اكتسبتهما بالتعليم والتدريب المستمر منذ نعومة أظافرها ، ثم تبدأ بالرقص الماجن والغناء والتعبير بالإشارات المثيرة، فتلتهب مشاعر المشاهدين ويشتركوا في العرض بالصيحات والتصفيق، ويحصلوا على جرعة مكثفة من التسلية والسمر، تظل محفورة في الذاكرة، لا يكفوا عن حكايتها طوال العمر.

المزيج المدهش

زادت أعداد الغجر في مصر مع تكاثر الأجيال، ورغم استمرار عدم الاندماج مع الشعب، لكنهم تعلموا اللغة المنطوقة وتأثروا بالإرث المصري، فتشكل  المزج الثقافي، الذي أفرز  الكثير من الأعمال الفنية الشعبية المدهشة نالت حب الناس وتعلقوا بها. وأبرزها روايات (الزناتي خليفة) المعزوفة على الربابة، الذي اشتهر من خلالها الفنان الغجري الريس متقال، وأغنية (متى أشوفك أشوفك) و(بحب بلدي) التي غنتها المطربة الغجرية الكبيرة (خضرة محمد خضر).

التعرض للإبادة الجماعية

بعد نهاية هتلر، سُلط الضوء على الفواجع التي عاشها الغجر في أوروبا، ومحاولة الإبادة الجماعية لإنهاء جنسهم البشري وتعرضهم لمجازر شنيعة كادت تنهي وجودهم، فنالوا كثيرا من التعاطف حول العالم، وصل لمحاولة الدول الأوروبية منحهم دولة كاملة تكون وطنا جامعا لشتاتهم، لكنهم رفضوا متمسكين بعقيدتهم كشعب رحال بلا وطن. مؤمنين أن هذا قدرهم ولا يمكنهم تغييره مهما كانت المغريات.

أمان الغجر في مصر

لم يتعرض الغجر في مصر أو الدول العربية لمضايقات عنيفة كما حدث في أوروبا، خصوصا أنهم دخلوا في الإسلام، فقد ترسخوا على هامش المجتمع بحدود واضحة من عدم الاندماج برغبة مشتركة ومتجددة بين الغجر والأهالي.

الغوازي تحت الأضواء

استحوذت غوازي الغجر على تقديم غالبية فقرات الرقص الشرقي فى مصر على كافة المستويات، من قهاوي الأرياف والقرى، إلى قصور الحكام والأغنياء الارستقراطيين، من الكازينوهات البسيطة في الحارات الشعبية إلى نوادي السهر في الفنادق السياحية الفارهة، وكانوا الوعاء الحافظ والمجدد لكثير من الأغاني الشعبية المصرية التي يغنيها الناس حتى اليوم. مع تطوير حركات الرقص الشرقي وإضافة الضوابط في اتباع الإيقاعات المختلفة.

تاريخ من القبول

على مدى خمسمائة عام فائتة خصوصا القرن الأخير، كانت الأفراح الشعبية لا تخلو من فرقة الغوازي المعروفة بنشر البهجة والسرور في نفوس الحاضرين. بداية من زفة العروس لبيت العريس ثم صعود المسرح وتلقي النقوط حتى مطلع الفجر. ويشارك الجميع في هذه السهرة بقبول تام وفهم لضرورة هذه الطقوس ومدى تأثيرها الإيجابي على المجتمع وقاية من الكبت والكآبة.

اختفاء الغوازي

في الفترة الأخيرة تغير المزاج المصري، وندرت الأفراح الشعبية في الشوارع، وانقرضت تقريبا مهنة الغازية التي أسست مفهوم الرقص الشرقي كفن شعبي أصيل وليد البيئة.

رصد الأسباب دون أحكام

من أسباب هذا الاختفاء  للغوازي، ظهور طبقة جديدة من الوافدات الروسيات والصربيات والاتينيات بمواصفات جمال المرآة التي تقدمه السينما الأمريكية المليئة بالسيلكون والمنقوعة في مساحيق التجميل،ة والخلط بين رقصات البورنو الغربية المعتمده على الجسد شكلا، مع إهمال روح البهجة التي تميز الرقص الشرقي كمضمون، مع سطوة التقنية بتصوير مقاطع مسجلة بإشراف مخرجين ومصورين محترفين ونشرها بتوسع على قنوات الأغاني ووسائل التواصل الاجتماعي، وتشتهر الراقصات الوافدات دون امتلاك موهبة أو قدرة حقيقية على تأدية فقرات حية مع الجمهور لعدم فهم الرقص الشرقي كفن مبني على التفاعل مع الجمهور، وتسطيح المفهوم ليصبح مجرد حركات جنسية إباحية لإثارة الغرائز  مع إهمال المشاعر . فاختفى المسرح والجمهور  وظهرت الشاشات التي تعرض مقاطع مسجلة للمتابعين.

أفكار مستوردة أصابت قيمة تامر حسني

من جانب آخر، هناك متغيرات نرصدها دون الحكم عليها فقد طرأ على المجتمع نتيجة سفر المصريين للعمل في الخليج خلال النصف قرن الأخير، أفكار منقولة من بيئة مختلفة ترفض الغناء والرقص وتحرم الفنون بشكل عام وتحطّ من قيمتها. وتعتبر أن الفنون ضارة بالمجتمع ومسؤولة عن الفساد الأخلاقي والتخلف الذي أصابه.
ورغم تقلص هذه الأفكار وانكماشها أخيرا في دول الخليج، فإنها تغلغلت داخل المجتمع المصري وغيرت المزاج العام المتقبل لفنون الغجر، المحب للفنون بشكل عام. 
ووصل تأثير هذه الأفكار المستوردة  إلى تصريح الفنان تامر حسني بشهرته الواسعة وموهبته الكبيرة وتأثيره الحقيقي،  بأن أمنيته في الحياة اعتزال الفن لشعوره بحرمانيته، وهناك الكثير من الأمثلة التي يتنصل الفنان مما يقدمه من أعمال.
وإذا كان هذا حال الفنانين أنفسهم، بالتالي ستكون الشعوب أكثر تشددا وتمسكا بهذه الأفكار المستوردة، التي ترفض رقص الغوازي الحي المليء بالحياة، وتكتفي بالمشاهدة السرية للعوالم الجديدة على قنوات الغناء والإنترنت.

search