إسلام أبو النجا
جوزيف المخطوف حاكم مصر والشام والقدس وبلاد الحرمين.. يبكي كطفل
من المشاهد التاريخية التي مرت دون إمعان في جانبها الإنساني، حينما عثر علي بك الكبير على والده، بعد عقود من الفراق الجبري.
تبدأ الحكاية سنة ١٧٤٣ بقرية أماسيا في الأناضول، حينما كان جوزيف الصبي الذي يبلغ من العمر ١٣ عاما يلعب مع أقرانه في برية على أطراف منازل قريتهم، وباغتتهم عصابة تسرق الأطفال وتبيعهم في أسواق العبيد، يحاصرون الأطفال فجأة، ويرمونهم بشباك تشل حركتهم، وبسرعة يكممون أفواههم ويقيدوهم بالحبال، ثم يقتادوهم إلى ميناء معلوم، ويقذفوهم في مراكب ترحل بهم لمراكز تجميع وفرز هولاء الأبرياء، لإعدادهم لعمليات البيع، ونحن نسميهم (عبيد) بجهل متوارث، رغم أنهم أطفال مخطوفون، بجريمة شنيعة في حق الإنسانية.
خلال هذه الفترة يتم إجبارهم قبول الواقع الجديد، باستعمال أسوأ طرق التعذيب الممنهجة في حينه، وفي الغالب لا يصمد الطفل أكثر من ١٢ يوما حتي يسلم بمصيره الجديد، ولا يبدي أية مقاومة، ويصبح سلعة.
لكن جوزيف كان عنيدا وأشرس من باقي الأطفال، فتعرض لعذابات أشد جعلته في النهاية مثل الجميع يقبل بالتغيير، تم بيعه في تركيا، اختاره تاجر يبحث عن أمثاله لبيعهم في مصر، قوة جسمانية وشخصية ذكية وحسن الشكل.
وصلوا الإسكندرية مبحرين، فاشتراه على الفور موظفون في الميناء، وأرسلوه إلى القاهرة كهدية ثمينة للأمير إبراهيم كتخدا.
في القاهرة ينضم لبيت مملوكي له قوانين وطريقة للحياة، ويتدرب على فنون الحرب من قتال وفروسية، تحول جوزيف إلى علي، ثم بيك، ثم الكبير، وأظهر كفاية مكنته من الصعود إلى طبقة القادة، وبناء على قاعدة "الولاية لمن غلب"، صار شيخ البلد ووالي مصر، ويضم معها الحجاز وينادى باسمه بالحرمين الشريفين في مكة والمدينة، ثم يضم غزة والقدس، حتى تصل سيطرته لكل الشام، وكاد أن يضم تركيا ذاتها.
وقاد أحداثا مهمة شكلت تاريخ المنطقة الحديث وتم توثيق التفاصيل في مئات الكتب، ونال علي بك الكبير جاه وسلطانا لم يحلم بهما يوما، لكنه لم ينسى صدمته ومأساته الأولى، فكلف مساعديه بالبحث عن عائلته في الأناضول، والمفاجأة أنهم وصلوا لوالده، قسيس رومي يتبع الكنيسة الأرثوذوكسية، وافق على الفور بالمجىء إلى مصر، لما علم أن ابنه جوزيف المخطوف مازال على قيد الحياة.
كان علي بك الكبير شخصا شرسا، لا يكف عن الحرب، متجهم لا يبتسم، لكن عندما علم بوصول والده إلى مصر وانتشر الخبر، خرج بموكب عظيم لاستقباله في الميناء، ومعه حاشية من رجال البلد، وعندما رأى والده، بكى بكاء شديدا مثل طفل، وانحنى تحت قدمه يقبلها، وارتسمت على وجهه سعادة غابت لعقود، حينها عاد إليه شعور أنه إنسان.
رغم الفواجع المصاحبة لتكوين المماليك والأثر السلبي على المجتمع المصري، لم تتوقف أسواق الرقيق فى طول مصر وعرضها، واستمرت العصابات في خطف الأطفال من أهلهم في أوروبا وآسيا وأفريقيا، وجلبهم لمصر بمنتهى الجشع، حتى استطاع الخديوي إسماعيل سنة ١٨٦٣ بالبدء في وقف هذه المأساة بقرار شجاع وكفاح بطولي، الغريب أن الشيوخ والعلماء في هذا الزمان عارضوه بشده.
واتهموه بتعطيل الشريعة الإسلامية. وأن الوباء والفيضانات حلت بمصر وقتها نتيجة هذا القرار. وتباروا في الدفاع عن أسواق الرقيق، لكن عدالة القدر وقفت مع إسماعيل ومكنته من الانتصار على الأفكار الرجعية، ووصل الأمر لإقالة شيخ الأزهر والتهديد بتغير هيئة كبار العلماء، وهنا يتبادر سؤال مهم، على مدى ١٣٠٠ عام من انتشار أسواق العبيد والجواري في مصر والعالم الإسلامي، ألم يفكر أحد علماء الدين يوما طوال هذا الزمان كيف سيشعر لو خُطف منه أولاده، واختفو إلى الأبد؟!
الأكثر قراءة
-
04:55 AMالفجْر
-
06:26 AMالشروق
-
11:41 AMالظُّهْر
-
02:36 PMالعَصر
-
04:56 PMالمَغرب
-
06:17 PMالعِشاء
أكثر الكلمات انتشاراً