الخميس، 19 سبتمبر 2024

07:11 ص

"فيش وتشبيه" حتى أعانق القمر!

كانت ليلة تشبه تلك الأيام، ليلة من ليالي سبتمبر التي تبشّر بتوديع درجات الحرارة الساخنة. "لسعة برد" تأتي بغتة لتخمد حرارة جسدك، وربما روحك أيضا، لكن روحي هذه الليلة صعدت إلى السماء وتمنيت لو طال صعودها لسنوات.
كنتُ ليلتها في المرحلة الإعدادية، وعادة ما أحبّ تغيير وضعية غرفتي بداية كل فصل، وخاصة مع بدايات الخريف. أحبّ أن يكون "سريري" أسفل النافذة مباشرة حتى أستطيع مراقبة القمر في الثلث الأخير من الليل.

تعودت في هذا الوقت أن أستيقظ، نعم! للحديث مع الله عما حدث طوال يومي، أقول له بلسان طفلة: “معرفتش أحفظ اللوح النهارده، ساعدني بكره- يا رب شعري يطول شوية ـ خطي حلو أوي خليه يفضل كده”.. أحلام طفولية ليتها استمرت.

أتذكر تلك الليلة، جاءني هاجس أن الفجر حلّ، ويجب عليَّ الاستيقاظ للحاق بالمدرسة، إلا أنني رأيت ضوء القمر ينعكس على عينيّ، رأيته صافيا كالحليب، قريبا كأنه أقرب لي من روحي، مددت يدي حتى أصل إليه، كي ألمسه!.. فجأة صعدت روحي للسماء، صعدت للقمر ولامست أناملي أطرافه.. ضوء شديد يُحيط بي من كل مكان ولا أشعر به في عينيّ إلا كـ ضوء "سهاري"، ألتف حولي وأستشعر الجمال الذي لا يوصف بأي كلمات.. هذا حلم أم علم؟

أذان الفجر يدوّي في أذنيّ، فجأة "الصلاة خير من النوم"، أي نوم هذا وعيناي جاحظتان من هول الموقف، بداخلي صفاء وهدوء وسكينة بطريقة عجيبة، وكأن صفاء القمر انعكس وأصابني، وعلى شفتيّ ابتسامة حصولي على الدرجة النهائية في مادة الرياضيات!

في اليوم التالي، وفي الحصة الأولى بالمعهد الأزهري، دخل الشيخ ليتلو علينا اللوح الجديد، وسورة جديدة وهي "سورة يوسف" ليصل عند الآية: "إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ "، لأتذكر حلمي! القمر! ماذا يعني هذا الحلم، وبدأت التساؤلات تدور في ذهني: "حرام أنتي مين عشان تقارني نفسك بسيدنا يوسف، هو أنا لو سألت الشيخ يعني إيه الحلم هيضربني؟".

استكمل الشيخ الآية التالية قائلا: "يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ "، لأقرر في نفسي: "هقول للشيخ ويحصل اللي يحصل بس مش هسأل حد تاني!".

تحججت بعد الحصة برغبتي في الذهاب للحمام، وهرولت مسرعة خلف الشيخ وقصصت عليه الحلم، فبكى!، لأردّ بلهجة طفولية: هموت يا سيدنا الشيخ؟

ردّ بلهجة حاسمة: "إياك تقولي لحد الحلم ده، أنتي هتوصلي لحلمك وهتوصلي لمنصب كبير"، ابتسمت وعدت للفصل من جديد، وتبادر إلى ذهني أن الحلم الذي سيتحقق هو نجاحي في مادة الرياضيات "بعبع حياتي"، تأتي المفاجأة في نتيجة الشهادة الإعدادية بحصولي على 16 من 40 في الرياضيات، لأقول في نفسي: "أي حلم هذا الذي سيتحقق؟".

ذهبت إلى أمي حزينة وقصصت عليها الحلم، لتبكي أيضا، وأستشيط أنا غضبًا، علام تبكي تلك السيدة؟! ستقول بالتأكيد: حلم سيتحقق ومنصب سأناله، لتقطع أمي صوت أفكاري بترديد نفس العبارة، لأجلس في ليلتها على طرف السرير وأقول: أيا كان الحلم لن أفرح به فسأدخل القسم الأدبي ولن أنتصر على مادة الرياضيات طيلة عمري.

تمرّ سنوات المرحلة الثانوية وأجتهد، وعلى الرغم من بذلي مجهود خرافي، حصلت على "60%"، لأجلس نفس الجلسة وأقول لنفسي: حتى حلم الصحافة والإعلام ذهب سدى، أي حلم هذا وأي منصب الذي سأناله؟!

ذهب بي تنسيق جامعة الأزهر إلى كلية اللغة العربية، وحينها قال لي والدي: "أهي أحسن الوحشين، تشتغلي مدرّسة وخلاص"، على الرغم من أن تلك الكلية كانت قضاء الله، ووافقت عليه، ليكون أول يوم داخل محراب الجامعة أول أيام جبر الله لخاطري، وقفت أتساءل كيف ندرس "كتابة فن المقال"، ألم تكن تلك المادة من اختصاص كلية الصحافة والإعلام؟ لتردّ فتاة - لا أعرف اسمها حتى هذه اللحظة إلا أنني أتذكر ملامحها عن ظهر قلب- قائلة: "لا ممكن تشتغلي في الصحافة من كلية لغة عربية، أنا أخويا صحفي!".

بدأت مسيرة البحث عن جريدة تستضيف هذا الكائن الذي يحلم أن يعانق القمر!، بدأت أبحث في كل شبر يمكنني فيه تعلم ما معنى الصحافة، أعيد صياغة الموضوعات، أتحدث مع الجميع عن أفكارهم، تعلمت وما زلت أتعلم.. لتبدأ مسيرة حلم الالتحاق بنقابة الصحفيين، التي بدأت في 2019.

ووسط تحديات وصعوبات "مرّة تصيب ومرّة تخيب"، كان يوم الإعلان عن استقبالنا داخل اللجنة في 2023، عيدًا لي، فمنذ أكتوبر 2023 وحتى تلك اللحظة أوثّق كل ما حدث معي، سيئًا كان أم سعيدًا، بداية من إجراء "الفيش والتشبيه" الموجهة إلى نقابة الصحفيين، وحتى شراء "بليزر" حلف اليمين الذي أنتظره بفارغ الصبر!

لحظة رؤيتي لاسمي في كشوف المقبولين داخل أروقة نقابة الصحفيين، شعرت نفس شعور الحلم الذي مرّ عليه ما يقرب من 12 عامًا، شعرتُ بروحي صافية هادئة ساكنة، عيناي جاحظة من السعادة والحصول على الحلم، وعلى شفتيّ ابتسامة شكر وامتنان لله على توفيقه. ومن موقعي هذا، اليوم أقول “لقد قصصت رؤياي.. الآن لم تسع أجنحتي براح الكون”.

search