الجمعة، 20 سبتمبر 2024

01:32 م

سامح مبروك

سامح مبروك

A A

خارج حدود الأدب| شيخ الطريقة البتنجانية

‏في سنة 1985 ألقت السلطات القبض على الطبيب المدعو "صلاح بريقع" والشهير "بصلاح شعيشع" في شقة بسيدي جابر، ولم يكن السبب في القبض عليه حالات التحرش المثبتة في عيادة النساء والتوليد خاصته، والتي كانت في البداية عيادة فاشلة للأمراض الباطنية، ولم يكن أيضًا سبب القبض عليه عمليات الإجهاض غير المشروعة التي كانت عيادته من أشهر أوكارها، فتلك النشاطات لم تكن إلا بذرة نمت منها وترعرعت نشاطات أخرى أخطر وأضل لهذا الشعيشع الموهوب بالفعل.

بعد حادثة غامضة كان بطلاها "ميكانيكي ودجال" قرر شعيشع ملازمة الدجال لخمس سنوات متتالية، بعدها أعلن تصوفه واتباعه للطريقة الشاذلية، ويبدو أن هذا لم يكن الهدف بل كان فقط السبيل لما هو أبعد، وظهرت ملامح تطلعاته حينما ابتدع طريقة صوفية جديدة أطلق عليها الطريقة "الصلاحية الشاذلية المحمدية".

زاد شعوره بذاته بعد أن أصبح شيخ طريقة، وراح يتقرب من أصحاب الشهرة والسلطة ليناله منهم ما يطمح، وأخذ صيته يذيع، ولم يكن هذا ليشفي شغفه وشبقه بالشهرة والسطوة، فربما كان اطلاعه على بعض فلسفات التصوف مثل الاتحاد والحلول سببًا في ادعائه الخطير الذي قلب حياته رأسًا على عقب، فقد أشاع بين أتباعه وكانوا كثر في ذلك الوقت أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإن مات جسده فإن روحه مازالت حية، وادعى أن روحه الشريفة قد حلت في جسد ذلك الشعيشع، وأعلن نفسه بذلك نبيًا، يأمر وينهى بما يتنزل عليه.

فأخذ يفسر القرآن حسب أهوائه ويفصل الشرائع تفصيلًا، ويكلف هذا وينزع تكاليف الدين كالصلاة والصوم عن ذاك، بل أنه ابتدع طقوسه الخاصة، وكان أشهرها "القبلة المحمدية" بأن رخص لنفسه بأن يقبل النساء من أفواههن عشرين قبلة لمنح البركة، وفرض على مريديه أن يُتبعوا اسمه ب "عليه السلام" بل يكتبونه في مكاتباتهم "ص. ع. س." أي صلاح عليه السلام، وفرض غيرها الكثير من الطقوس الماجنة والفاحشة التي أحلها لنفسه ولأتباعه وكان يمارسها في شقة أحد مريديه والتي كان يسميها بالساحة المقدسة.

ولما وصل عدد أتباعه 1200 وانتشرت القصص في الإسكندرية حول طقوسه وأفعاله ومزاعمه، قامت الشرطة بالقبض عليه وعلى أتباعه في شقة سيدي جابر "الساحة المقدسة"، وبعد محاكمته وثبوت إدانته سنة ١٩٨٥، تم حبسه لمدة خمس سنوات خرج بعدها في عام 1990 ليتوارى في الظلال ويموت بعد خروجه بثلاث سنوات.

بالتأكيد لم يكن حبس صلاح شعيشع أو موته نهاية القصة، بل كان فقط نهاية فصل من فصول عديدة لتجار الدين عبر العصور، ممن يبيعون للناس جنة الوهم تحت مظلة حق يراد به باطل، ويطل اليوم علينا صلاح جديد ولكنه تيجاني هذه المرة، وكالعادة وكما يفعل دائمًا أمثاله، يدعي في نفسه ما ليس فيه، ليصدقه ضعاف القلوب، الملهوفين لمعجزة لا تحدث، ولكرامة لن تدرك، ويتغذى على سذاجتهم ليملأ بطنه من أموالهم ويرفع ذاته الدنية من أتباعهم.

ولعل الصوفية، لما لها من أبعاد فلسفية عميقة، وحدود رقيقة ما بين الاتباع والابتداع، يصعب على كثير من العامة إدراكها، تظل مرتع لألوائك التجار لممارسة أنشطتهم، فلم يكن أحد الصلاحين هو أول من يتمسح بالصوفية لنيل مآربه الدنيئة، من حفنة مال أو تحرش بجسد، بل أن أمثالهما كثر، وطالما كان من الناس من يحاول دومًا الوصول إلى الجنة والرضا والبركة والمعجزة بوساطة أو بمنحة أو بطرق سهلة بعيدة عن صحيح العبادة والدين، سيظل هؤلاء يظهرون في المجتمع جيلًا بعد جيل، تمامًا كمستريح الأموال ومن قبله السعد والريان، فالمكسب السهل بدون عناء هو آفة في الفطرة البشرية.

ولكن كل فترة يشاء الحكيم العليم أن يفضح فساد صلاح هذه الأيام ومن قبله صلاح الماضي، ليرسي قواعد عقيدته وحكمته وعدله سبحانه، ويدع تعاطي الناس -قبل أن ينسوا- لتلك الحوادث دومًا خارج حدود الأدب.

search