الثلاثاء، 22 أكتوبر 2024

09:34 م

رؤيا ومرسال

تشدو أم كلثوم في حفلتها التليفزيونية المعتادة، العاشرة مساء بتوقيت القاهرة على فضائية "روتانا كلاسيك". 
ولكن تلك الحفلة لم تكن كأي حفلة أستمع لها، كانت استثنائية كمشاعري في هذه اللحظات. قررت الجلوس لمراقبة الأشخاص من خلف الزجاج في ساعة متأخرة كهذه وفي ليلة شتاء قارسة.. كعادتي يوميًا منذ أكثر من شهر، منذ أن حلّ بي السلام وذهب في غمضة عين!

تختلف طريقة حبنا للأشخاص وكذا طريقة التعبير عن الحب، بينما يحتفظ الفراق بكل دراميته بأكثر الطرق الكلاسيكية الممكنة، دائمًا أرى الفراق رجلًا عريض المنكبين يرتدي بذلة سوداء كلاسيكية وحذاء أسود  "بيلمع"، ويترك تلك اللمعة في أعيننا باقي العمر!

لم أعرف أميّز في تلك اللحظة تحديدا ما بين صوت انكسار روحي وبين الرعد قبل لحظات من هطول المطر، والذي تزامن معه عتاب أم كلثوم قائلة: 
ما خطرتش على بالك يوم تسأل عني
وعينيّ مجافيها النوم، النوم يا مسهرني
أنا قلبي بيسألني، إيه غيّر أحواله
يا ناسيني وإنت على بالي وخيالك ما يفارق عيني
ريحني واعطف على حالي وارحمني من كثر ظنوني

رافقت كلمات "ثوما" وخزة في أسفل عضلة قلبي، أعلم أن دوائي هو الكتابة، لم أفكر في استخراج دواء سيولة الدم بل الكلمات هي دوائي في تلك اللحظات ستقوم بدور إنعاشي..

وضع النادل كوب القهوة على الترابيزة الخشبية، وسط سماعي صوت الست ممزوجًا بقطرات المطر، استخرجت دفتري الصغير الأبيض، ذات اللون المحبب له والذي دونت فيه بكل حب، لحظات الحب والفراق، ولحظات انهزامي، في أول وآخر لقاء بيننا في ذات المكان قبل شهر،  وجدت المنزل الذي ظللت أبحث عنه طوال حياتي، حينها وعدني ألا يكون آخر لقاء بيننا، زاعمًا أن "اللقا نصيب".


اسمي "رؤيا" بارعة في كل شيء إلا الإفصاح عما بداخلي، في الصباح وضعت إصبعي في جوفي فكنت أريد أن أتقيأ ما أريد نطقه.. كلماتي وأسئلتي وقلقي الذي يخنقني، تتحول الكلمات بداخلي إلى سحابة سوداء تخنق روحي قبل عقلي..

كل ما بي يشير إلى أني فتاة غريبة الأطوار إلا أنني ذات "قلب من ذهب" كما يقول أبي، كل علامة غريبة ظهرت علىّ كلفتني الكثير، الشيب الذي حلّ على شعري علامة على أني صبرت، الهالات السوداء دليل على بكائي طوال الليل حتى أصمد في النهار، رعشة يدي التي أصبحت تلازمني كظلي علامة على أني مررت بموقف لا أقوى على احتماله حتى هذه اللحظة..

حتى طبعي "الرجولي" كما قيل لي، بالرغم من أنه عيب، إلا أن الطفلة بداخلي اتّخذته كستار تقف خلفه خوفًا من العالم المرعب!

تعود أم كلثوم من جديد لتكمل ملحمتها، بقولها: 
اسأل عن اللي يقضي الليل
بين الأمل وبين الذكرى
يصبر القلب المشغول
ويقول له نتقابل بكره
وبكره يفوت وبعده يفوت ولا كلمة ولا مرسال

"مرسال" هو ذاك الشخص الذي بعثه الله لي كـ "مرسال"، أخذ جزءًا ونصيبًا من اسمه، عندما رأيته لأول مرة استقر في منتصف قلبي كـ"سهم" صوبه الله نحوي، فكان كأي رجل على وجه الأرض ليست عيناه خضراء ولا زرقاء، بل كانت بُنية خاطفة من اللحظة الأولى، ملامحه العادية تجلعه ملفتًا أكثر من غيره، كان بسيطًا كالماء واضحًا كـ "طلقة مسدس"، ذات ابتسامة ليست الأجمل، لكنى أكاد أجزم أنها الأنقى على وجه الأرض، طفل في هيئة رجل ورحمة ربانية في هيئة نسمة هواء لطيفة في أعتى لحظات الموجة الحارة.

لم تجمعنا قصتنا إلا ساعات، أعيش عليها الآن، أسير في الشوارع أبحث عنه، حتى أنني يوميًا أجلس في المقهى ذاته على المقعد ذاته، لعله يخطيء ولو لمرة ويأتيني.. بينما أتى سؤال "ثوما" قاطعا أفكاري، قائلة: 
أقول لروحي أنا ذنبي إيه
يقول لي قلبي حلمك عليه
مسيره بكره يعطف علينا
ونبقى نعرف هجرنا ليه

يأتي النادل حتى يسألني إذا ما كنت أرغب في كوب جديد من القهوة حتى أحصل على التدفئة اللازمة، لم يعلم أن دفء قلبي حدث مرة واحدة، فأجيب عليه "بتهتهة"، أنني لم أرغب في شيء، ليرد قلبي بهمهمة " لم ترغبي في شيء إلاه"..

لم يكن يعلم "مرسال"، أنه الوحيد الذي جلست أمامه لـ 8 ساعات نتبادل الأحاديث بكل طلاقة، فلقد ولدت بإعاقة في لساني تجعل الحروف تتأخر في طريق سيرها وتموت قبل ولادتها وهو ما جعل الجميع ينفر مني، ولم يفهم حديثي ومعاناتي أحد، فلأول مرة تخرج الكلمات في سياقها المناسب ولم تمت الكلمات قبل أن تخرج على الملأ.

أخذت الست ثوما "تعيد وتزيد" في الكوبليه، لذا قررت أن أستعد للرحيل، ليلة جديدة من خيبة الأمل، أنتظر بلا جدوى، دائمًا مشاعر الخيبة تشبه الموجة العالية، تأخذك على جناحيها تصعد بك لأعلى نقطة ثم تهبط، تتمرجح معها مرة بعنف ومرة بقوة، وتظل تخبط فيك باستمرار ولا تتركك إلا وأنت تنزف من كل مكان.

بالرغم من برودة الطقس إلا أنني قررت أستمتع به حتى أتخلص من عبء إحساس خيبة الأمل، أخذت أجرّ رجلي إلى المنزل ليلاحقني آخر كوبليه من أغنية ثوما يخرج من كافيه مجاور، ولكن الصدمة أن "مرسال" كان يجلس يستمع إليها أيضا، وقفت مكاني كأني أصبت بصاعقة كهربائية، وبدأ صوت الرعد من جديد يدوي في المكان حتى انتبه لوجودي وانتفض مبتسمًا مهرولًا إلىّ كغريق وجد طوق النجاة، قائلا: "كنت بدوّر عليكي، بس شكلي كنت في المكان الغلط!".

لتنهي أم كلثوم أغنيتها، قائلة: 
تعالى خلي نسيم الليل على جناح الشوق يسري
طالت الأيام
تعالى لي قوام
ده أنا عندي كلام بدي أقوله لك
وفي قلبي هيام أوصفه لك
ونعيش أيام، ولا في الأحلام

search