السبت، 06 يوليو 2024

06:53 م

"عصا وجلابية".. آخر ما تبقى من "خُط الصعيد"

خط الصعيد محمد منصور

خط الصعيد محمد منصور

حازم معتمد

A A
سفاح التجمع

محمد منصور المشهور بـ “سر الختمة”، طفل صعيدي غير عادي، ليس فقط لأنه ولد أشقر بعينين زرقاوين، وهو شيء بالغ الندرة في محافظات الجنوب، لكن لأنه تحول لاحقًا إلى أخطر مطلوب تبحث عنه الجهات الأمنية. كما صار "مزحة" لاذعة، على لسان الملك فاروق، يوبّخ بها مدير أمن أسيوط في ذلك الوقت، عزيز أباظة باشا.

القصة المثيرة تبدأ في قرية درنكة بأسيوط، عام 1907، مع بشارة ألقتها القابلة على الأب “منصور” تبشره بسلامة زوجته: "جابت ولد يا منصور"، ليرد عليها: “هسمّيه محمد”. نشأ محمد نشأة عادية لا تختلف عن أقرانه في شيء، يساعد أباه في الزراعة، ويحفظ القرآن في الكتّاب، ويلعب في الشارع.

فيما بعد، صار الطفل محمد، أشهر "مجرم" في مصر، تطارده الشرطة المصرية بكل رجالها، والشرطة الإنجليزية. “تليجراف مصر” وثقت من داخل متحف الشرطة بالقلعة قصة “خُط الصعيد” وآخر ما تبقى منه، عصاه وملابسه.

سلسال دم

نقطة التحول جاءت بالصدفة، بعد معركة بين عائلة محمد، وعائلة شيخ الخفر في "درنكة"، تحولت إلى ثأر متبادل، سقط فيه ضحايا كثيرون، وذاق فيه محمد طعم الدم، بعد قتله أحد الرجال من العائلة الأخرى، وهو ما دفعه وإخوته للاختباء في مغارة بعيدة في الجبل.

مع حاجة الإخوة إلى الأكل والشراب، تحولوا تدريجيًا إلى "عصابة" تسرق لتأكل، ثم تقتل لتعيش، ثم تقتل لتفرض سطوتها، ثم تقتل لتخرس الألسنة، وتمنع أحدًا من التفكير في مقاومتها، أو الإبلاغ عنها.

خلال هذا، قتل الإخوة الكبار بالتتابع: رمضان وعبد الحكيم وتوفيق والرويحي، في الوقت الذي ذاع صيت "محمد"، لينضم إليه آخرون هاربين من الثأر أو من الشرطة، أو طامعين في الانتقام، أو راغبين في العيش بعيدًا عن القانون. عصابة في الجبل، تسرق، وتنهب، وتقتل، وتفرض سطوتها.

 

فرض أتاوة

اختصارًا، تحول اسم محمد منصور على ألسنة الناس إلى "سر الختمة"، ثم إلى الختمة والختم والخت وأخيرًا "الخط"، وصارت عصابته مصدر رعب مستمر لأهالي القرى المجاورة، تفرض الإتاوات على الأعيان وملاك الأراضي مقابل حماية أرضهم، ومن يرفض، يكون مصيره سلب ممتلكاته بالقوة، وربما يصل به الحد إلى القتل.

ذاع صيت الخط، وسعت الشرطة كثيرًا للقبض عليه أو قتله دون جدوى، حتى وصل الأمر إلى الملك فاروق شخصيًا، وخلال الاحتفال بعيد ميلاده، عام 1947، وبينما كان الملك فاروق يصافح المدعوين، جاء دور عزيز أباظة، بادره الملك ساخرًا “قولي يا عزيز باشا هو الحظ بنقطة فوق الخاء؟ ولا فوق الطاء؟”.

عاد أباظة إلى أسيوط، ليشكل فرقة "الموت" لمطاردة الخط، بقيادة الملازم أول محمد سعيد هلال، وكان لها مهمة وحيدة، قتل محمد منصور “سر الختم”. صارت الفرقة تجوب الشوارع، وتحاول اقتحام الجبل الذي يختبئ فيه الخط، ونجحت في قتل 100 شخص، متهمين بالسرقة أو الخطف، لكن لم يكن الخط من بينهم، فقد كان يتمتع بحدسٍ فائق، وقدرة جبارة على التصويب من بعيد.

الطُّعم.. 3 راقصات

كان مشهورًا بحمله بندقية إنجليزية من طراز "لي انفيلد"، وكان يقتنص رجال الشرطة من على بعد مئات الأمتار، ولهذا وضعت الداخلية خطة لاستدراجه وسط البيوت، بحيث يتم مداهمته بطريقة لا يتوقعها. ووصل الأمر إلى حد استئجار ثلاث راقصات من "الغجر"، وأشيع أنهن سيقمن في القرية ثلاثة أيام متتالية، ثم يرحلن بعيدًا، ليثار فضول الخط ويزورهن، خصوصًا مع اشتهار ولعه بالنساء. لكن المفاجأة أنه ذهب لمشاهدة عروضهن، والتقى بهنّ ليلًا، وتسلل دون القبض عليه.

كان الخط كثيرًا ما يلاقي مساعدة من البعض، إما خوفًا منه، أو افتتانًا بقصته ومسيرته، وبقدرته على "تدويخ" الشرطة والدولة بأكملها لسنوات. وهو ما كان يساعد على نسج القصص الغريبة حوله، والتي تحمل من خيال مؤلفها أكثر من الواقع، وكانت تلقى صدًى كبيرًا لدى الناس، وتلهب حماسهم للخط، وتلمس عطشهم للأسطورة.

اتفق الخط وعصابته على سرقة قطار إنجليزي كان متجهًا من أسوان إلى القاهرة، وبالفعل، اقتحموه معًا، وسرقوا كل من فيه من الأعيان، وكان بينهم ضباط وعساكر إنجليز، وهو ما جعل صيت الخط يصل إلى بريطانيا؛ لتطلب من الحكومة المصرية القبض عليه، ومحاكمته في أسرع وقت.

21 طلقة

علم الخط بتحرك الشرطة، فبادر بالانتقام منهم، محاولًا قتل مأمور أسيوط، فأطلق النار على سيارته، التي كانت تقل رئيس النيابة وعددًا من الضباط، بالإضافة إلى المأمور الذي أصيب بـ3 طلقات، بينما لقي 3 من رجال الشرطة مصرعهم. ليعقد رئيس الوزراء حينها، إسماعيل صدقي، اجتماعًا مع قادة وزارة الداخلية، ويلزمهم بضرورة التخلص من الخط سريعًا.

عام 1947، رفض أحد ملاك الأراضي في زمام أسيوط، ويدعى حسن كدواني، دفع الإتاوة التي فرضها عليه الخط، لتستولي العصابة على أرضه. وحينها، أدركت قوات الأمن أن الخط مقيم داخل الأرض، فحاصرتها، وحدث تبادل كثيف لإطلاق النيران، تمكنت الشرطة من قتل الخط وتصفيته بـ21 طلقة نارية.

 

زفة الموت

حمل عبد الحق بك، مأمور منفلوط ورجاله جثة الخط، وعرضوها على والدته، الخالة فضة، فأنكرت أنه ابنها، وطلبت من المأمور أن يلقي بالجثة بعيدًا، فصاح الأميرالاي عباس بك عسكر حكمدار أسيوط في رجاله أن يستدعوا الطبيب الشرعي لتشريح الجثة، حينها انهارت فضة وصرخت طالبة ألا يتم تشريح الجثة، قائلة: "يا بك دا ولدي"، ثم راحت تصرخ: "يا أزرق العينين.. يا أشقر"، أما زوجته رشيدة، فظلت تصيح وهي تهدد: "حنجيب تارك من اللي قتلوك يا أبو ولدي".

بعدها، حمل المأمور والأميرالاي جثة الخط على عربة مكشوفة، وطافوا بها شوارع أسيوط، ليراها الأهالي، ثم أمر الحكمدار بأن يتجه الموكب إلى بلدة درنكة مسقط رأس الخط، حيث تم دفنه، لتنتهي قصة من أغرب ما حوته سجلات الداخلية في مصر عبر تاريخها.

search