السبت، 09 نوفمبر 2024

04:34 ص

الكاتب الصحفي نبيل عمر
A A

دواء الصندوق فيه سم قاتل!‏

‏ أتصور أن المصريين يتحسسون جيوبهم الآن فزعًا ورجًاء، وهم يسمعون أخبار مباحثات ‏بعثة صندوق النقد الدولي مع الحكومة المصرية، ويدعون السماء "يا خفي الإلطاف نجنا ‏مما نخاف، فهم يعرفون أن بعثة الصندوق في القاهرة لمراجعة  تنفيذ الروشتة التي كتبوها ‏للحكومة، وإلى أي مدى تجرع المصريون دواءها؟

بالطبع لن تكون المباحثات بين الحكومة والصندوق سهلة هذه المرة،  فالناس تجأر بالشكوى ‏مما حدث فيهم ولهم، فجنيهاتهم انكفأت أرضا وخسرت أكثر من نصف قيمتها في أقل من ‏ثلاث سنوات، وأسعار السلع فلتت من عيارها وتجاوزت أي حدود يمكن التعايش معها بأمان، ‏ولم تعد الطبقة الوسطي قادرة على تحملها إلا بالكاد، ويسقط بعضها إلى أسفل، فما بالك ‏بالأقل دخلا؟

وهي أحوال مؤلمة دفعت الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يطلب من الحكومة أن تراجع ‏الروشتة مع الصندوق..‏

قطعا دواء الصندوق في حاجة إلى مراجعة، فهو لم يكن ناجعا، لا معنا ولا مع غيرنا، على ‏العكس كان سما في تجارب كثيرة شرقا وغربا، وإذا أخذنا البرتغال مثالا لما فعله الصندوق ‏بها، ربما نفهم أسباب سميته، وكانت البرتغال قد وقعت في فخ ديون خارجية بلغت 280.4 ‏مليار دولار في عام 2011، تعادل 114 % من ناتجها المحلي الإجمالي، فأخذت منه قرضا ‏بـ78 مليار دولار ضمن حزمة متعددة الأطراف قيمتها 110 مليار دولار، وراحت تنفذ ‏‏"روشتة الصندوق" التقليدية، بتخفيض الإنفاق العام وتقليل الصرف على الخدمات الاجتماعية ‏وزيادة الضرائب.. إلخ، فإذا بالدواء يحدث اضطرابات اضطرابات اجتماعية واقتصادية ‏كبيرة، ما زالت أثارها سارية، وأيضا لم تقل ديون البرتغال دولارا واحدا، بل ارتفعت إلى ‏‏439.5 مليار دولار، تعادل 151 % من الناتج المحلي الإجمالي!‏

وتكررت التجربة مع جنوب إفريقيا في عام 2020 برغم اختلاف التفاصيل والظروف، ‏فجنوب إفريقيا عانت بشدة من جائحة كورونا، حتى أن ناتجها المحلي الإجمالي تراجع بنسبة ‏‏6.4 %، ونجم عنه تضخم كبير، فطلبت حكومتها دواء الصندوق مقابل قرض قيمته 4.3 ‏مليار دولار، فلم تشف من أثار الجائحة، وارتفعت بها نسبة البطالة، وضربتها موجات متتالية ‏من غلاء الأسعار.‏

وإذا عدنا إلى الوراء قليلا، سنجد تجربة إندونيسيا شديدة المرارة تصرخ فينا: دواء الصندوق ‏فيه سم قاتل، فأندونيسيا كانت على رأس الدول التي افترستها الأزمة المالية الأسيوية الشهيرة ‏في 1997، واختل ميزانها التجاري بدرجة هائلة، فاستعان الرئيس محمد سوهارتو بالصندوق، ‏وطلب قرضا 43 مليار دولار، فاشترطوا عليه حزمة من الإجراءات الصارمة، وقيل إن ‏الرئيس الأمريكي بيل كلينتون تدخل، ولعب دورا في إقناعه بتجرع الدواء، وحين فعلت بلاده ‏انهارت العملة الإندونيسية انهيارا بالغا، من 2500 روبية للدولار إلى 16000 روبية ‏للدولار، أي فقدت 84 % من قيمتها، فانقلبت الدنيا رأسا على عقب وحدثت اضطرابات ‏اجتماعية عاصفة وتصدع النظام السياسي وانتهت حياة سوهارتو السياسية في عام 1998.‏

عموما حكايات الصندوق وما فعله دواؤه في البلدان التي تجرعته لا تنتهى، خاصة أن الدواء ‏‏يتسبب في ظاهرتين متناقضتين في بعض البلدان: تضخم وكساد، يعني زيادات متواصلة ‏في الإسعار ناجمة عن خفض سعر العملة، وتراجع في الطلب علي السلع والخدمات، بعد ‏خروج شرائح من المجتمع صارت غير قادرة على شرائها، والكساد يحدث دوما انخفاض ‏على الطلب، وانخفاض الطلب يعني تراجع الأسعار أو ثباتها، لكن مع دواء الصندوق، ‏ينخفض الطلب وترتفع الأسعار، وهي حالة موجعة جدا لأي اقتصاد، تشبه تحالف الجراد ‏والجفاف على الأرض الزراعية!‏

وهذا شيء طبيعي ومتوقع، فالصندوق مثله مثل أي مقترض، يهمه أولا ضمان استرداد ‏فلوسه من الدائنين، فيشترط عليهم إجراءات "إصلاح ميزانية الدولة"، حتى يقل عجزها ‏وتزيد إيراداتها، كي يصبح المدين قادرا على سداد الأقساط، ولهذا برامجه كلها أرقام ونقود ‏داخله ونقود خارجة، وليس فيها بشر لهم حياة واحتياجات وأحلام، فإذا هرستهم هذه البرامج ‏فلا يعنيهم، كما لو أن الاقتصاد مجرد معادلات رياضية خالية من الإنسان، ولهذا يكتبون ‏روشتة واحدة لأي أزمة، لا فرق بين الأرجنتين واليونان أو كينيا والبرتغال أو الصومال ‏وإيرلندا!‏

وفلسفة دواء الصندوق إن الإصلاح المالي هو أول الخطوات وأهمها في أي إصلاح ‏اقتصادي، والأولوية لتحقيق التوازن بين أبواب الإنفاق ومصادر التمويل، وان تعمل الحكومة ‏على رتق العجز في الميزانية العامة قبل أي شيء، حتى لا تتفاقم صعوباتها المالية، يعني ‏روشتة تقول بكل وضوح إن حل أزمة النقود أهم من إنتاج السلع والخدمات.‏

ومعلوم أن "فلوس" أي دولة تأتي من الرسوم والضرائب وعوائد الملكيات العامة،  فإذا لم ‏تغطى نفقاتها، فأمامها خياران، أن تتبع سياسة تقشف صارمة، وأن تزيد من الضرائب، وإذا ‏لم يفلح الخياران في تضييق الفارق، فلا بديل عن الاقتراض.‏

هنا تأتي روشتة  الصندوق للدول التي تقترض منه، ولها عنوان جذاب للغاية "القرارات ‏الصعبة للإصلاحات المطلوبة"، والروشتة كلاسيكية وقديمة جدا، ولا تفكر سوى في ‏الضرائب ورفعها، والنفقات العامة وتخفيضها، خاصة في الخدمات الاجتماعية التي تدعم أقل ‏طبقات المجتمع دخلا، على أساس أن المعيار هو السعر العالمي، وأن شرائح أعلى دخلا ‏تستفيد أيضا من هذا الدعم دون وجه حق.‏

روشتة تطبق بحذافيرها مهما كان هيكل الاقتصاد في المجتمع الذي يتجرع دواءها ومستوي ‏الأجور فيه!‏

والسؤال: هل الاقتصاد هو سوق وأسعار وموازنة عامة فقط؟.. قطعا.. لا.‏

والسؤال الأهم: هل نفذت دولة روشتة الصندوق ونهضت اقتصاديا؟

لم يحدث هذا لا في تجربة اليابان ولا كوريا الجنوبية ولا الصين ولا سنغافورة ولا ‏ماليزيا.. إلخ.‏

باختصار لابد من تزامن الإصلاح الاقتصادي مع الإصلاح المالي، ومن الأفضل أن يسبقه ‏بخطوات، حتى يشعر المواطنون بتحسن في جودة حياتهم قبل أن يدفعوا سعرا عالميا لسلعهم ‏وخدماتهم، وهو ما تهمله روشتة الصندوق تماما.‏

يقول الفيسلوف الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي: لقد أصابت الصدمة خبراء صندوق النقد ‏الدولي، جراء الفشل الذريع لوصفاتهم، وانهيار الصرح الفكري للنظرية الاقتصادية التي ‏يعتمدون عليها.‏

باختصار يحذرنا تشومسكي من روشتة الصندوق على طريقة يوسف وهبي في فيلم حياة ‏وموت: الدواء فيه سم قاتل!‏

search