دواء الصندوق فيه سم قاتل!
أتصور أن المصريين يتحسسون جيوبهم الآن فزعًا ورجًاء، وهم يسمعون أخبار مباحثات بعثة صندوق النقد الدولي مع الحكومة المصرية، ويدعون السماء "يا خفي الإلطاف نجنا مما نخاف، فهم يعرفون أن بعثة الصندوق في القاهرة لمراجعة تنفيذ الروشتة التي كتبوها للحكومة، وإلى أي مدى تجرع المصريون دواءها؟
بالطبع لن تكون المباحثات بين الحكومة والصندوق سهلة هذه المرة، فالناس تجأر بالشكوى مما حدث فيهم ولهم، فجنيهاتهم انكفأت أرضا وخسرت أكثر من نصف قيمتها في أقل من ثلاث سنوات، وأسعار السلع فلتت من عيارها وتجاوزت أي حدود يمكن التعايش معها بأمان، ولم تعد الطبقة الوسطي قادرة على تحملها إلا بالكاد، ويسقط بعضها إلى أسفل، فما بالك بالأقل دخلا؟
وهي أحوال مؤلمة دفعت الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يطلب من الحكومة أن تراجع الروشتة مع الصندوق..
قطعا دواء الصندوق في حاجة إلى مراجعة، فهو لم يكن ناجعا، لا معنا ولا مع غيرنا، على العكس كان سما في تجارب كثيرة شرقا وغربا، وإذا أخذنا البرتغال مثالا لما فعله الصندوق بها، ربما نفهم أسباب سميته، وكانت البرتغال قد وقعت في فخ ديون خارجية بلغت 280.4 مليار دولار في عام 2011، تعادل 114 % من ناتجها المحلي الإجمالي، فأخذت منه قرضا بـ78 مليار دولار ضمن حزمة متعددة الأطراف قيمتها 110 مليار دولار، وراحت تنفذ "روشتة الصندوق" التقليدية، بتخفيض الإنفاق العام وتقليل الصرف على الخدمات الاجتماعية وزيادة الضرائب.. إلخ، فإذا بالدواء يحدث اضطرابات اضطرابات اجتماعية واقتصادية كبيرة، ما زالت أثارها سارية، وأيضا لم تقل ديون البرتغال دولارا واحدا، بل ارتفعت إلى 439.5 مليار دولار، تعادل 151 % من الناتج المحلي الإجمالي!
وتكررت التجربة مع جنوب إفريقيا في عام 2020 برغم اختلاف التفاصيل والظروف، فجنوب إفريقيا عانت بشدة من جائحة كورونا، حتى أن ناتجها المحلي الإجمالي تراجع بنسبة 6.4 %، ونجم عنه تضخم كبير، فطلبت حكومتها دواء الصندوق مقابل قرض قيمته 4.3 مليار دولار، فلم تشف من أثار الجائحة، وارتفعت بها نسبة البطالة، وضربتها موجات متتالية من غلاء الأسعار.
وإذا عدنا إلى الوراء قليلا، سنجد تجربة إندونيسيا شديدة المرارة تصرخ فينا: دواء الصندوق فيه سم قاتل، فأندونيسيا كانت على رأس الدول التي افترستها الأزمة المالية الأسيوية الشهيرة في 1997، واختل ميزانها التجاري بدرجة هائلة، فاستعان الرئيس محمد سوهارتو بالصندوق، وطلب قرضا 43 مليار دولار، فاشترطوا عليه حزمة من الإجراءات الصارمة، وقيل إن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون تدخل، ولعب دورا في إقناعه بتجرع الدواء، وحين فعلت بلاده انهارت العملة الإندونيسية انهيارا بالغا، من 2500 روبية للدولار إلى 16000 روبية للدولار، أي فقدت 84 % من قيمتها، فانقلبت الدنيا رأسا على عقب وحدثت اضطرابات اجتماعية عاصفة وتصدع النظام السياسي وانتهت حياة سوهارتو السياسية في عام 1998.
عموما حكايات الصندوق وما فعله دواؤه في البلدان التي تجرعته لا تنتهى، خاصة أن الدواء يتسبب في ظاهرتين متناقضتين في بعض البلدان: تضخم وكساد، يعني زيادات متواصلة في الإسعار ناجمة عن خفض سعر العملة، وتراجع في الطلب علي السلع والخدمات، بعد خروج شرائح من المجتمع صارت غير قادرة على شرائها، والكساد يحدث دوما انخفاض على الطلب، وانخفاض الطلب يعني تراجع الأسعار أو ثباتها، لكن مع دواء الصندوق، ينخفض الطلب وترتفع الأسعار، وهي حالة موجعة جدا لأي اقتصاد، تشبه تحالف الجراد والجفاف على الأرض الزراعية!
وهذا شيء طبيعي ومتوقع، فالصندوق مثله مثل أي مقترض، يهمه أولا ضمان استرداد فلوسه من الدائنين، فيشترط عليهم إجراءات "إصلاح ميزانية الدولة"، حتى يقل عجزها وتزيد إيراداتها، كي يصبح المدين قادرا على سداد الأقساط، ولهذا برامجه كلها أرقام ونقود داخله ونقود خارجة، وليس فيها بشر لهم حياة واحتياجات وأحلام، فإذا هرستهم هذه البرامج فلا يعنيهم، كما لو أن الاقتصاد مجرد معادلات رياضية خالية من الإنسان، ولهذا يكتبون روشتة واحدة لأي أزمة، لا فرق بين الأرجنتين واليونان أو كينيا والبرتغال أو الصومال وإيرلندا!
وفلسفة دواء الصندوق إن الإصلاح المالي هو أول الخطوات وأهمها في أي إصلاح اقتصادي، والأولوية لتحقيق التوازن بين أبواب الإنفاق ومصادر التمويل، وان تعمل الحكومة على رتق العجز في الميزانية العامة قبل أي شيء، حتى لا تتفاقم صعوباتها المالية، يعني روشتة تقول بكل وضوح إن حل أزمة النقود أهم من إنتاج السلع والخدمات.
ومعلوم أن "فلوس" أي دولة تأتي من الرسوم والضرائب وعوائد الملكيات العامة، فإذا لم تغطى نفقاتها، فأمامها خياران، أن تتبع سياسة تقشف صارمة، وأن تزيد من الضرائب، وإذا لم يفلح الخياران في تضييق الفارق، فلا بديل عن الاقتراض.
هنا تأتي روشتة الصندوق للدول التي تقترض منه، ولها عنوان جذاب للغاية "القرارات الصعبة للإصلاحات المطلوبة"، والروشتة كلاسيكية وقديمة جدا، ولا تفكر سوى في الضرائب ورفعها، والنفقات العامة وتخفيضها، خاصة في الخدمات الاجتماعية التي تدعم أقل طبقات المجتمع دخلا، على أساس أن المعيار هو السعر العالمي، وأن شرائح أعلى دخلا تستفيد أيضا من هذا الدعم دون وجه حق.
روشتة تطبق بحذافيرها مهما كان هيكل الاقتصاد في المجتمع الذي يتجرع دواءها ومستوي الأجور فيه!
والسؤال: هل الاقتصاد هو سوق وأسعار وموازنة عامة فقط؟.. قطعا.. لا.
والسؤال الأهم: هل نفذت دولة روشتة الصندوق ونهضت اقتصاديا؟
لم يحدث هذا لا في تجربة اليابان ولا كوريا الجنوبية ولا الصين ولا سنغافورة ولا ماليزيا.. إلخ.
باختصار لابد من تزامن الإصلاح الاقتصادي مع الإصلاح المالي، ومن الأفضل أن يسبقه بخطوات، حتى يشعر المواطنون بتحسن في جودة حياتهم قبل أن يدفعوا سعرا عالميا لسلعهم وخدماتهم، وهو ما تهمله روشتة الصندوق تماما.
يقول الفيسلوف الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي: لقد أصابت الصدمة خبراء صندوق النقد الدولي، جراء الفشل الذريع لوصفاتهم، وانهيار الصرح الفكري للنظرية الاقتصادية التي يعتمدون عليها.
باختصار يحذرنا تشومسكي من روشتة الصندوق على طريقة يوسف وهبي في فيلم حياة وموت: الدواء فيه سم قاتل!
الأكثر قراءة
-
04:46 AMالفجْر
-
06:15 AMالشروق
-
11:39 AMالظُّهْر
-
02:41 PMالعَصر
-
05:02 PMالمَغرب
-
06:21 PMالعِشاء
أكثر الكلمات انتشاراً