ابن عباد.. فارس النعامة الذي عفا عن قاتل ابنه

“قربا مربط النعامة مني، ليس قولي يراد لكن فعالي، شاب رأسي وأنكرتني الغوالي، طال ليلي على الليالي الطـوال، كلما هب ريح ذيل الشمال، لبجير مفكك الأغلال، لا نبيع الرجال بيع النعال”، بتلك الأبيات رثى الحارث بن عباد مقتل ابنه بجير على يد الزير سالم.

لم تعرف العرب في الجاهلية رجلا أقوى من الحارث بن عباد، الذي يضرب المثل بقوته وعنفوانه وأيضًا يضرب المثل به في الحلم والأخلاق والقيم.

نال ابن عباد مكانة في قومه، إذ كان سيدًا من أشراف قومه ومن سادات ربيعة وفرسانها المعدودين، وكان من حكام العرب المشهورين.

هو الحارث بن عباد بن قيس بن ثعلبة من بني ضبيعة، وله 3 إخوة وهم عمرو، جرير ومرة، وقيل أن له 9 إخوة، وأما كنيته فهو أبو بجير، وثمة اختلاف في بجير هذا إذ جعل بعض الرواة أنه ابنه والبعض الآخر أنه ابن أخيه.

وعاصر ابن عباد حرب البسوس التي استمرت زهاء 40 عاما، إذ اعتزلها في بدايتها ثم شارك فيها كما سيأتي.

حرب سدوس

ويروى أن غلاما لعمران بن نبيه السدوسي اسمه معمر بن سوار أورد إبل سيده عند أحد العيون، فاصطدمت إبله بإبل عباد أبو الحارث، وهنا ثار الحارث وقتل الغلام بسهم وتبعه بسهم آخر للفضيل بن عمران، وكان عمران من أشراف قومه وسيدا مطاعا.

عاد الحارث إلى إبله وأخذها سريعًا عطشانة إلى والده العباد وأخبره بما حدث، فتفل أبيه في وجهه، وقال لا حياك ولا بياك، سأسلمك إلى عمران بن نبيه فيقتلك بولده ولا أبعث بقومي حرب قبيلة سدوس.

فرد الحارث على أبيه "لا يقتلني عمران بولده، ولا تسليمك إياي يدفع عنك حرب سدوس، فتجهز لها".

وأغار عمران بن نبيه على قبيلة بكر، واجتمعت إليه سدوس وقالوا الرأي رأيك فمر بما شئت، ليرد عليهم "لا أرى كفء لولدي ولست أرضى إلا برأس وائل بن ربيعة (كليب) أو البراق بن روحان.

فردوا عليه "ليس هذا برأي، أيقتل ابنك من الحارث بن عباد وأنت الثأر بكليب أو البراق؟ هذا هو البغي الصريح"، فأبي عمران أن يسمع لها فوافقه بعضهم والبعض رفض المشاركة في الحرب.

اعتذرت قبيلة الحارث عن مقتل الفضيل بن عمران وسألوه أن يحكموه في الدية وأرسلوا الرسل لكنه رفض لتقوم الحرب على الفور.

بدأ عمران الحرب وقتل من بني ضبيعة التي تحالفت مع بني ربيعة خلق كثير، أبرزهم العباد أبو الحارث وإخوة الحارث وأسر عقيل بن مروان سيد بني ضبيعة.

وتولى الحارث قيادة بني ضبيعة وقتل أحد أبرز الفرسان نصر بن مسعود، وأصبحت الدائرة على السدوسيين، ونصر الله ربيعة وضبيعة، وصار للحارث اسم في قومه.

"فعاله أنطق من لسانه"

أرسل النعمان بن المنذر ملك الحيرة باليمن وفدًا إلى كسرى ملك الفرس كان من بينهم الحارث بن عباد، إذ تنقص كسرى من العرب أثناء مقابلته النعمان ذات مرة.

فأراد النعمان أن يعرف كسرى فضل العرب، فبعث إلى أشراف العرب ومن بينهم الحارث بن عباد وأخبرهم الخبر وطلب منهم أن يتحدث كل منهم عن فضل العرب، ليعلم كسرى أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه.

ولما مثلوا بين يدي كسرى ألقى كل منهم خطبة عن فضل العرب، وألقى الحارث كغيره من سادات العرب ودار حوار بينه وبين كسرى الفرس:

"دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظها، وعلو سنائها، ومن ذهب ماله، قل منحه، يعرف حالنا العجم والعرب، ونحن جيرانك الأدنون، وأعوانك المعينون، خيولنا جمة، وجيوشنا فخمة، إن طلبتنا فغير غمض، لا ننثني لذعر، ولا نتنكر لدهر، رماحنا طوال، وأعمارنا قصار".

وقال كسرى: أنفس عزيزة وأمة ضعيفة، ليرد الحارث: أيها الملك وأنى يكون لضعيف عزة أو لصغير مرة أي قوة!، ليرد كسرى: لو قصر عمرك، لم تستول على لسانك نفسك.

وقال الحارث: أيها الملك إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغررًا بنفسه على الموت؛ فهي منية استقبلها، وجنان استدبرها، والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدمًا، وأحبسها، حتى إذا جاشت نارها، وسعرت لظاها، وكشفت عن ساقها، جعلت مقادها رمحي، وبرقها سيفي، ورعدها زئيري، حتى أنغمس في غمرات لججها.

ورد كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو؟ قالوا: فعاله أنطق من لسانه.

وأتم كسرى حديثه: ما رأيت كاليوم للعرب وفدًا أحشد، ولا شهودًا أوفد.

شسع نعل كليب

عاصر ابن عباد حرب البسوس التي استمرت زهاء 40 عاما بين قبيلة تغلب وبكر، ورفض الحارث المشاركة مع أولاد عمومته البكريين ضد تغلب وقال قولته المشهورة التي يعرفها القاصي والداني "هذه الحرب لا ناقة فيها ولا جمل".

وأراد ابن عباد أن يوقف تلك الحرب فأرسله ولده إلى سالم الزير الذي كان يثأر لمقتل أخيه كليب ملك العرب من البكريين ليقتله ويوقف الحرب.

ورد سالم قائلا: "أأنت بكليب بل بشسع نعل كليب، فطعنه دون أن يعطه فرصة للدفاع عن نفسه، فظن الحارث أن ولده مات حقنًا للدماء، فلما علم ما كان من الزير أقسم أن يقتل سالما ودخل حرب البسوس مع البكريين ضد التغلبيين.

وأنشد الحارث: "كل شئ مصيره للزوال، غير ربي وصالح الأعمال، قل لأم الأغر تبكي بجيرا، لهف نفسي على بجير، يا بجير الخيرات لا صلح حتى، نملأ البيد من رؤوس الرجال".

"قربا مربط النعامة مني حتى تقر العيون بعد بكاها، حين تسقى الدما صدور العوالي، أصبحت وائل تعج من الحر، قد تجنبت وائلا كي يفيقوا، فأبت تغلب علي اعتزالي".

"وأشابوا ذؤآبتي ببجير، قتلوه ظلما بغير قتال، قتلوه بشسع نعل كليب، إن قتل الكريم بالشسع غال، يا بني تغلب خذوا الحذر إنا، قد شربنا بكأس موت زلال، يا بني تغلب قتلتم قتيلا ما سمعنا بمثله في الخوالي".

فارس النعامة

اشتهر الحارث أكثر ما اشتهر بالوفاء، وغدا مضرب المثل في الوفاء، كما اشتهر بالحلم فقد كان أحلم أهل زمانه وأشدهم بأسًا، وتجلى ذلك عندما علم بمقتل ابنه بجير ففرح لانتهاء الحرب، وقال "نعم النهاية يا جبير، بدمك تحقن دماء العرب، نعم الغلام غلاما أصلح بين البكريين والتغلبيين".

عرف الحارث بالشجاعة والجرأة والإقدام وظهر ذلك خلال حرب البسوس رغم شيخوخته، وكان يعرف بأنه فارس النعامة، والنعامة هي فرسه التي طلب أن تقرب لها ليثأر لولده جبير.

بعد دخول ابن الحارث حرب البسوس، انقلبت الدفة نحو البكريين وخلال إحدى المعارك تحديد يوم "تحلاق اللم".

 وأسر الحارث بن عباد الزير سالم وهو لا يعرفه لضعف بصره فقال له: دلّني على عديّ (الزير سالم) وأخلى عنك، فقال له عديّ: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال نعم، قال فأنا عديّ، فجزّ ناصيته وتركه وفاءً للوعد وقال فيه:

لهف نفسي على عدي ولم أعرف عديا إذ أمكنتني اليدان

وقالت العرب مثلا عنه "أوفى من الحارث ابن عباد" أي أنه مضربا في الوفاء بالعهد لأنه ترك قاتل ابنه وفاءً لعهده، وهذا خلق عظيم لا يأتي إلا من الرجال.

وفي أواخر عمره، بينما كان عنترة بن شداد في فجر شبابه أطبق الرجل عجوز ابن عباد، وكان قد تجاوز السبعين من عمره يده على يد عنترة، حتى سال الدم من يد ابن شداد.

وقال ابن الحارث: "لو كنت في شبابي لصرت عنزة بدلًا من عنترة".

ولم يعرف متى مات الحارث ابن عباد إلا إن شهرته حتى وقتنا الحاضر وسيرته ممتدة مع الزمان.