الجمعة، 22 نوفمبر 2024

12:19 م

أوراق العمر لـ مجدي يعقوب.. الحرب وكرة القدم وعشق أسوان ومنحة الطفل (2)

عائلة الدكتور مجدي يعقوب

عائلة الدكتور مجدي يعقوب

تامر إبراهيم

A A

عند الترحال بين أحرف صفحات التاريخ المصري، سيكون الدكتور مجدي يعقوب حاضرًا بكل تأكيد، والأمر هُنا غير مرهون بقيمة علمية وطبية كبيرة فقط، بل مقرون بسيرة إنسان كان يجول يصنع خيرًا، ملهمًا ومتواضعًا وباعث أمل في نفوس الملايين.

تحت عنوان «مذكرات مجدي يعقوب.. جراح خارج السرب» كتب سيمون بيرسن وفيونا جورمان، وهما زوجان عملا في صحيفة «التايمز» 30 عامًا، أول سيرة ذاتية للدكتور مجدي يعقوب، وكتب مقدمتها في النسخة العربية الدكتور محمد أحمد غنيم، رائد زراعة الكلى في العالم، والدكتور مصطفى الفقي، رئيس مكتبة الإسكندرية السابق، والدكتورة ماري آرتشر، عضو مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية.

وتحت عنوان «أوراق العمر لـ مجدي يعقوب»، نعيد قراءة سيرة «طبيب القلوب» في حلقات ينشرها «تليجراف مصر»، فإلى الحلقة الثانية..

خريف 1942

كان مجدي يعقوب في السابعة من العمر حينما وقعت مأساة ثانية بعد مأساة فقدانه لعمته، انطبعت في ذاكرته ورسخت في نفسه طموحه إلى أن يكون طبيبًا.

اندلع الحرب العالمية الثانية في عام 1939، وكان الدكتور حبيب والد مجدي يجلس بجوار مذياعه الصغير في يأس، منصتًا إلى الأخبار، ومعلنًا لمن حوله أن الصراع سيشمل العالم كله،  قبل أن تعلن مصر - الخاضعة لسيطرة بريطانيا منذ عام 1882 - الأحكام العرفية في عام 1939 وقطعت علاقاتها الدبلوماسية بألمانيا وإيطاليا، واتخذت بريطانيا من مصر قاعدة لعملياتها في البحر المتوسط، وواجهت قوات المحور في شمال إفريقيا.

وبحسب رواية مجدي يعقوب في مذكراته، فمع ما شهده القتال من مد وجزر خلال سنوات ثلاث أولى في عمر الحرب، نُقل الدكتور حبيب إلى مدينة الفيوم، ولما اقتربت القوات الألمانية - أو "الفيلق الإفريقي" بحسب تسميته بالألمانية، من العاصمة المصرية في خريف عام 1942 وقعت المأساة.

مئات الضحايا في قصف مصنع بجوار المنزل

قصفت القوات الجوية الألمانية مصنعًا على مقربة من بيت الطفل مجدي يعقوب، ما أدى إلى إصابة كثير من الناس. كان مصنعًا ضخمًا يُنتج كميات ضخمة من القطن، بعضه كان يُستخدم في الصناعة، وأكثره كان يُخزن للتصدير، بحسب رواية مجدي يعقوب.

وأضاف أن المصنع كان جيد الإضاءة. فلما وصل الألمان إلى العلمين، وقد أوشكوا على احتلال مصر، أخطأت قاذفاتهم وظنته تابعًا للبريطانيين ومخصصًا للسلاح. ورغم مرور 8 عقود (80 عامًا)، إلا أنه ما زال بوسعه وصف الأصوات المختلفةلمحركات الطائرات الألمانية والبريطانية، متابعًا:«الألمان دأبوا على الطيران فوق بيتنا، فكنا نعرف طائراتهم ونصيح: المخبأ، المخبأ».

«قصفوا المصنع وكان فيه مئات الناس. كنت طفلا ولكنني أتذكر، كثيرون جدًا أصيبوا»، تلك كانت كلمات مجدي يعقوب التي ذكرها متحدثًا بفخر عن دور أبيه الذي قدم مساعدات كبيرة للناس.

وأردف مجدي يعقوب: «قلت لنفسي وقتها: سأصبح طبيبًا مثل أبي. كان على الجبهة وظل أياما دون أن يرجع إلى البيت، ولما رجع أخيرًا رجع وهو في غاية الإنهاك».

السباح رئيس فريق كرة القدم

تلك المأساة غيرت شيء ما في نفس «ابن يعقوب»، وبمضي السنوات اكتسب الثقة في نفسه، بدأ الجميع يدركون خصاله، فيعرفون فيه نضجه وشدة بنيانه القرينة بوداعته. فانتخبوه في إحدى المدارس رئيسًا لفريق كرة القدم.

الأصدقاء الصغار استغلوا جيدًا قوة بنيان مجدي مقارنة بأقرانه، فكانوا دائمًا ما يقولون إنه إذا حدث لنا مكره من أحد، فمعنا مجدي يعاقبه.

علاقة مجدي يعقوب بالرياضة لم تقتصر عند رئاسته لفريق كرة قدم، بل كان سباحًا ماهرًا، ففي طفولته حرص الأبوين «حبيب ومادلين» على اصطحاب الأبماء إلى رأس البر. ويقول مجدي يعقوب متذكرًا ذلك: «كنا نقيم في أعشاش مقامة على الشاطئ نفسه، فكأننا في دنيا الأحلام. هكذا كانت السباحة والبحر طرفًا من قصتي، أما البحر المتوسط فسحر خاص».

قصة حب أسوان

حينما بلغ مجدي الثالثة عشر من العمر، بالتحديد في 1948، انتقلت الأسرة لتعيش حوالي عامين في أسوان، وهناك بدأت قصة حب كبيرة استمرت حتى الآن.

التحق الطفل مجدي بمدرسة صغيرة في أسوان، كان منبهرًا بالمكان، وتركتا المناظر الطبيعية وطبيعة الناس أثرًا عميقًا.

يقول مجدي: «"ي تلك الأيام كانت أسوان أهدأ ممَّا هي الآن، فعندك النيل، والخضرة على جانبيه، ومن ورائها الصحراء الألوان وحدها فتنة، فليست للصحراء تلك الصفرة الحارقة، ولكنها صفرة رقيقة، والأخضر هناك من أدنى درجات الأخضر، فاللونان في غاية الخفوت، بينما النيل أزرق هائل».

لم تكن الطبيعة وحدها التي تأسر مجدي يعقوب، لكن ما أدهشه أيضًا التعدد العرقي في أسوان، ففيها المصريون والنوبيون وأبناء الصحراء. ويردف مجدي: « بدا لي جلالُ في تنوع الناس وفتنتنيبحق. وتلك هي الخلفية التي رأيت عليها بقايا مصر العتيقة، من معابد أقامتها المحبة والتفاني والفن، ومن أطلال التماثيل الهائلة. بل لقد كانت في معبد كوم أمبو على مقربة من أسوان، رسوم لأولى الأدوات الجراحية، ضمن الرموز
الهيروغليفية».

ويستطرد مجدي في رواية قصة حبه بأسوان: «في طفولتي كان يلهمني كثيرًا أن أرى كل ذلك الذي يُذكر بالحضارة القديمة وأن أكون على مقربة من جمال النيل. لم نعش هناك إلا عامين فقط، بل أقل، وقد قلت لنفسي  إنني سأرجع يومًا ما». وهو ذلك الوعد الذي تحقق وأقام مجدي يعقوب مؤسسته التي تعالج الفقراء والأمراض المستعصية.

التجربة الأولى داخل غرفة عمليات

كان كل تركيز الطفل مجدي على دراسته وأن يظفر بمكان في كلية الطب، ودفعه هذا الطموح إلى الاطلاع بتوسع في العلوم والطب، بل وقاده ولعه إلى خوض تجربة أولى داخل غرفة عمليات ولكنها لم تكن تجربة سعيدة.

خال مجدي دعا ابن شقيقته للحضور معه في غرفة العمليات، فذهب واغتسل وخلال العملية بعد رؤية كثير من الدم، أغشي عليه وسقط أرضًا، ما كان لخاله سوى أن يسخر منه ويقول: «وتريد أن تصبح جراح قلب!».

جراح لا يحب مشاهدة الدم!

رغم مئات الآلاف من الساعات داخل غرف العمليات من أجل جراحات دقيقة، إلا أن مجدي يعقوب لا يطيق منظر الدم، على حد وصفه، فيقول: «لعلك تسألني كيف يكون ذلك وقد أنفقت عمرك غارقًا في الدم؟ في غرفة العمليات أكون في أتم تركيزي، لكنني أشعر أيضًا بأنني أسيطر سيطرة تامة. فإن تمزق شيء فما هي بمشكلة. سأسيطر على ذلك. لكن خارج غرفة العمليات في الشارع، عندما أرى حادثا، لا أكون أنا المسيطر».

طفل يتقدم لمنحة جامعية

كان مجدي يعقوب عمره 15 عامًا حينما خاض امتحانا للفوز بمنحة في جامعة الملك فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا)، حيث قرر الصغير أنه لن يريد إثقال كاهل أبيه في دفع مصاريف دراسة الطب.

وكان من بين الأوراق المطلوبة للمنحة مقالة عن مستقبل العلم، فكتب مجدي عن النشاط الإشعاعي، مستغلا على قراءاته الواسعة، واطلاعه على على منجزات النيوزيلاندي إرنست روذرفورد، الذي يعتبره الكثيرين أبو الفيزياء النووية، وأيضًا عالمة الفيزياء الفرنسية ماري كوري. وقد ظفر بالمنحة وتكريم أيضًا عما قدمه.

جاء مجدي يعقوب ضمن العشرة الأوائل في اختبارات المنحة عام 1951، ورافقه أخيه الأكبر «جيمي» بمكان في كلية الطب في نفس العام، وبذلك لم تمر سوى 10 سنوات على وفاة عمته «يوجين» بمرض في القلب، وعزم الصغير على أن يصبح طبيبًا ينقذ من مثلها، إلا ووضع الطفل ذو الـ15 عامًا قدمًا على طريق تحقيق الحلم.

اقرأ الحلقة الأولى: أوراق العمر لـ مجدي يعقوب.. ميراث حبيب وعهد غجري وموت ملهم (1)
 

search