الأحد، 24 نوفمبر 2024

01:24 م

صابر حارص يكتب: نصيحة من محب للشيخ علي جمعة

برنامج “نور الدين” الذي يقدمه فضيلة الشيخ الدكتور علي جمعة على أربع قنوات مصرية من بداية رمضان برنامج مهم من حيث الفكرة والهدف إذا خلصت النوايا، وكانت القيم والتربية الإسلامية ضابطا لا يمكن الحياد عنه.


وأول هذه الضوابط هو  وعي العالم والداعية الإسلامي بالفرق بين 
تكنيكات الإعلام، وتكنيكات الدعوة، حتى نستخدم الإعلام في خدمة الدعوة وليس العكس، فيقوم الإعلام بتوظيف الدعوة والدعاة لخدمة أغراضه التجارية والسياسية والايدولوجية.


فقد استفادت الدعوة كثيرا من تكنيكات الإعلام وأساليبه وقوالبه، وظهر ذلك جليا في ظهور كثير من الدعاة المؤثرين، ووصول الرسالة الدعوية إلى جماهير واسعة بفضل استخدام قوالب التحرير الإعلامي، وهو ما يمكن تسميته بتوظيف الإعلام في خدمة الدعوة.


أما أن تستخدم تكنيكات الدعوة في خدمة الإعلام، ويتم توظيف الدعاة والعلماء لخدمة القنوات الفضائية فهذا خلط لا يليق بالدعوة ولا يليق بالدعاة؛ فتكنيكات الإعلام بمفهومها الموضوعي يمكن أن تخدم الدعوة في نوعية الأسئلة المسكوت عنها المتعلقة بالذات الإلهية، وقصة الخلق، وغيرها من الأسئلة التي تمثل هاجسا لنا ولأطفالنا على مر الأجيال، ولا تزج بالإسلام نفسه في معترك يتناقض فيه بين آياته وأحاديثه.


ورغم أن الفقه الاسلامي العظيم حسم تساؤلات الأطفال أو الكبار عن الذات الإلهية والشك والتشكيك فيها استنادا إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي أمرتنا بالاستعاذة من الشيطان وتكرار قول آمنت بالله، وقول (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) {الحديد:3} وينتهي الأمر إلا أنه يمكن للشيخ علي جمعة تناولها بأسلوب أكثر عصرية وأكثر عقلانية، وهو مؤهل لذلك بحكم طبيعته الشخصية ودراسته واهتماماته.


أما الأسئلة التي تتعلق بالجنة لغير المسلمين، وعلاقات الصداقة والحب ببن الولد والبنت، والمزاح واللعب مع بعضهما، فهذه تكنيكات إعلامية ودعائية تضر بالدعوة لكل الأديان التي لم تبح ذلك.

ففيما يتعلق بدخول غير المسلمين الجنة، فإن استدعاء الشيخ للآية رقم 62 من سورة البقرة (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
هو استدعاء صحيح للاستشهاد بأن الجنة ليست حكرا على المسلمين، ولكنها تضم أيضا اليهود والنصارى والصابئين الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا أثناء فترات التوارة، ثم الإنجيل.


أما بعد فوات الفترة التي نزل فيها أنبياء بني إسرائيل فأصبح اليهود مطالبين بالإيمان بسيدنا عيسى عليه السلام، ومن لم يؤمن بعيسى ويظل على يهوديته فهو غير مؤمن ولا تنطبق عليه الآية القرآنية، وكذلك الحال بالنسبة للنصارى الذين علموا بسيدنا محمد ودعوته مطالبين هم واليهود بالإيمان به.


وقد تفرد الإسلام في رسالته بأنه جعل الإيمان بكل الأنبياء والرسل من لدن آدم ونوح ومرورا بإبراهيم وإسحاق وحتى موسى وعيسى شرطا للإسلام والإيمان معا.

ومن ثم، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، وما حكم غير المسلمين الآن، والجواب حكمهم على الله، خاصة وأن الأمر يتعلق بوصول الدعوة المحمدية لهم، ووصول الدعوة يحتاج لتفسير ما إذا كان فهموا القرآن أم مكلفون هم بالسعي لفهمه


ومن ثم فإن الآيات التي تقول (إن الدين عند الله الإسلام، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وغيرها من الآيات التي تفسر في إطار أن المقصود بالإسلام هنا هو دين الله الذي أرسل به أنبياءه جميعاً، ومعناه: الاستسلام والانقياد لله تعالى، والتصديق برسله جميعاً
فهو دين واحد، والمؤمنون به هم المسلمون بهذا الدين، من نوح وحتى محمد صلى الله عليه وسلم،  قال تعالى ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه ) (الشورى: من الآية13)
وقال تعالى ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (البقرة:132)


غير أن هذه الفكرة لا  تكتمل إلا بالآية العظيمة ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فأصبح الأمر واضحا للمسلمين وغير المسلمين الذين يعيشون الآن، وهو أن  الدين الواحد الذي بدأ من آدم وانتهى بمحمد، يتطلب الإيمان بمحمد وما أنزل عليه من القرآن والأحاديث القدسية وما جاء به من السنة النبوية وما أوحي إليه من الأحاديث النبوية.


غير أن رحابة الإسلام التي تتسع لما قبل نزول القرآن وبعده، وتتسع للمسلمين وغيرهم جاءت بأفضل رد يمكن أن يستعين به الدعاء والعلماء في  قوله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد) فأحالت الآية أمر الجميع إلى الله، يفصل بينهم يوم القيامة.


ولكن الشيخ علي جمعة ترك هذه الآية التي تجعل من الجنة والنار  غيبا يعلمه الله، ويفصل فيه يوم القيامة، وهي إجابة عظيمة تتسق  مع فقه الدعوة، وتجعل الدين لله والوطن للجميع، وتراعي مشاعر الجميع، ولا تزج بالإسلام في الحكم على الآخر، كما لا تجعل من الإسلام حكما للجنة والنار، والأهم من ذلك لا تثير فتنة بين الأوساط الإسلامية نفسها التي تضم المتشدد والمعتدل.


ترك الشيخ هذه الآية وراح يختار آية أخرى دون أن يوضح إطارها الزمني التي ترمي إليه، مما أحدث جدلا وربما استياء داخل الأوساط الإسلامية.


وأرى أن هذه أمور مؤسسية قتلت بحثا ودراسة في المؤسسات الدينية، وليست فتوى أو رأي فردي يقوم به عالم عن آخر، كما أرى أن الجنة والنار بالذات أمور تخص كل دين على حدة، وتقوم دور العبادة لكل دين بتناولها، بدليل أنه لا يمكن لأي رجل دين مسيحي الإجابة على هذه النوعية من الأسئلة إذا وجهت له بخصوص دخول غير المسيحين الجنة.

أما الأمر الثاني حول آراء الشيخ الذي أحدثت غرابة ودهشة هو إباحته لعلاقة الحب والصداقة بين الولد والبنت ما دامت نيتهم سليمة ويعلم بها الآباء، والحقيقة أن للشيخ أراء قبلها في نفس الموضوع أكد فيها على ضرورة العفاف بين الذكر والأنثى عامة، والعفاف لا ينسحب على ما أباحه مؤخرا.


فضلا عن أن رأي الشيخ الأخير  الذي أثار الجدل لا يمكن أن يكون مقبولا عقليا واجتماعيا ونفسيا في مجتمعنا والمجتمعات العربية، بل يمكن النظر إليه على أنه أفكار غربية لا تتسق مع ثقافتنا وتقاليدنا وأصالتنا.


ومن ثم فإن الدعاة والعلماء بشكل عام يجب عليهم الحذر وهم يتعاملون مع وسائل الإعلام وسحرها وإغرائها، وضرورة التمييز بين استخدام الإعلام في الدعوة، وبين الإيقاع بالدعاة لخدمة أغراض إعلامية، لأن الأخيرة يمكن ان تنتهي بفقدان الثقة في الدعاة، وفي القنوات التي استغلتهم أيضا.


وخطورة ما جرى أن بعض المتربصين للشيخ يمكن أن يضعوه في مربع عيسى والبحيري والهلالي، أو يتوهموا أنه يحاكي الدين الإبراهيمي وهيئة الترفيه السعودية، وهو عالم وفقيه من الصعب أن يكون كذلك.

search