العباية السمرا وخيالات الرجل المصري.. نظرة نسائية
لا أتذكر أني رأيت أمي مرة و هي ترتدي عباءة سوداء، لا في مشاويرها العائلية أو حتى للسوق القريب، كذلك لم أرَ أيًا من خالاتي وعماتي يرتدونها، كانت أمي ترتدي الفساتين، فستان يشبه الجلابية، لكنه من قماش يصلح للخروج، حريري في الصيف وصوف في الشتاء.
لم نكن من الأغنياء، لكن كان فستان أمي وإيشاربها الأبيض القصير مختلفا عن نساء الحي، اللاتي لم يرتدين العباءة أيضا لكن كان لكل منهن جلباب مميز، تسير النسوة معا في اتجاه السوق لكل واحدة شكل مختلف بجلباب مميز، بتفصيلة تتشابه في حردة واسعة للصدر وانسدال متسع لا يكشف تفاصيل الجسم، بألوان مختلفة يغلب عليها الغوامق ليس تفضيلا لإخفاء عيوب الجسد، لكن لأن التوب الغامق يبلى متأخرا عن ذلك الذي يحتاج لأن يغسل مرارا.
إذن متى انتشرت في وادينا كل هذه العباءات؟
في تسعينيات القرن الماضي وفي إحدى زيارات قريبة لنا جاءت مؤخرا من السعودية، حيث كان يعمل زوجها، رأيتها، كانت سوداء فاحمة، معها طرحتها من نفس القماش الخالي من الأشكال والتطريز، فقط الأسود الفاحم وكانت قريبتنا بيضاء اللون، صاحبة جسد مكتنز وعود سارح كما النخيل، كان جسدها يلتف بالعباءة وتلتف به، فلا تدرك أيا منهم كان سببا في أن يبرز جمال الآخر، حينها كانت العباءة للموعودات القادمات من الخليج، سمة مميزة، مثلها مثل "الغوايش" الذهب المفرطة في اللمعان، كانت العباءة السوداء كذلك مفرطة في الهيبة ثم تحول الأمر لإفراط من نوع آخر.
حتى التسعينيات من القرن الماضي، لم يكن هناك ثمة انتشار للعباءة السوداء، على العكس كانت باهظة الثمن على أصحاب الدخول المتوسطة، فمن كان يستطيع أن يدفع مائتين من الجنيهات في عباية خليجي، لكن مع الوقت بدأ زحف العباءة، وزالت عنها الصفة الخليجية، كما زال عنها الأسود كمسمى يميزها بين الألوان وفرضت الطبقة الشعبية سطوتها ولهجتها عليها فصارت "العباية السمرا".
مثلما شكلت العباءة السوداء تاريخ الزي للمرأة الخليجية، كانت الملاية اللف تعكس الروح المصرية الخالصة بعذوبتها وجاذبيتها الشديدة وقدرتها على جذب الأنظار وكذلك على إبعادها بحسب مدى ضغطها على الجسد، توسيعها من جوانب، وتضييقها من جوانب أخرى، وبرغم سحر الملاية اللف إلا أنها توارت في ظروف غامضة لصالح العباية السمرا، التي ترضي الجميع فهي رمز الحشمة تفصيلا ولونا ولكنها الأكثر إثارة للفضول الذكوري، لاستكشاف ماخفي عن ناظره.
في منزلنا كانت هناك واحدة، ملاية لف، ورثتها أمي عن جدتي، لم ترث أمي سواها، لا ملامح ولا صفات ولا مشاعر، فقط الملاية اللف، كنت الأصغر بين إخوتي، فسمحت لي أمي أن ألهو بها، فكنت أتقمصّ بها شخصيات الأفلام أمام المرآة، لم تكفني مرآة منزلنا، فانطلقت بها أسير متباهية بمراهقتي وملاية جدتي اللف، لا أزال أتذكر ابن خالتي الذي رآني في الشارع وأتى مهرولا لأمي: ماينفعش يا خالتي شيماء تخرج بالملاية كده هي مش صغيرة.
اختفى ابن خالتي من وقتها، مسافرا في الخليج، واختفت الملاية اللف، وكنت في كل مرة ارتدى فيها العباية السمرا اكتشف أني لست صغيرة، في كل ملابسي أظهر صغيرة، أما في العباية كنت كبيرة، كبيرة جدا على أن أتحمل كل هؤلاء البشر الذين يحملقون في العباءة أو في من ترتديها.
ما فعله المصريون بالعباءة كان كاشفا، فالعباءة السوداء التي تناولتها الأبحاث عن تاريخ الملابس في السعوديه واظهرتها كعلامة من علامات الرفاهية والتوقير للنساء، كشفت عن وجود قديم للعباءة في بلاد بين النهرين، يرجع إلى أربعة آلاف عام.
بالطبع لم تكن بذات الشكل الحالي، لكنها كانت زيا فضفاضا يستر جسد المرأة من الرأس إلى القدم، وكان ستر جسد المرأة من علامات التميز بين الحرة وغيرها من الجواري، ومع انتشار الإسلام صارت زيا دينيا وتمايزت بين القبائل لتتميز نساء كل قبيلة بشكل مخصص لعباءتها، ما بين عباءة بني سعد وعباءة نجد وعباءة بني مالك، كانت العباية السمرا في مصر علامة مميزة لفتاة الطبقة الشعبية، تكلفتها صارت في متناول الجميع، وعلى عكس ما يعتقد البعض، فكلما كان الزي رخيصا ولامعا ومزينا بالترتر والألماظ "الفالصو" كلما كان مثيرا أكثر وقادرا على إثارة شهوة الذكر المصري، وفي العباية السمرا تجمعت أسباب الإثارة، فصار ما تحتها حكاية.
في إحدى الجلسات مع طبيبتي النفسية، أخبرتها عن مخاوفي من انجذاب زوجي للعبايات السمرا، فسألتني ولم لا ترتديها أنتي.. إذا كان يفضّل هذا الشكل؟ أعاد حديث الطبيبة صوته على مسماعي قائلا: أنا بحسّ إني متجوز الملكة فريدة!!
لم استمع لنصيحة الطبيبة، وبقيت فريدة.
لم يكن هو الرجل الوحيد الذي تلفت انتباهه العبايات السمراء، مؤخرا ومع رواج فيديوهات قصص المنازل اليومية على منصات يوتيوب وتيك توك، وتحولها لمصدر ربح، تحولت العباية السمرا لأداة جذب لملايين المشاهدات، من فتاة العباية، و لأخريات وجدن في العباية السمرا مخرج آمن كسبيل للإغراء مع احتفاظهن بكامل ملابسهن، الغريب أن الفكرة كانت تنجح في كل مرة وتحقق أهدافها، بلا مجهود يذكر في محتوى ملموس، أو حتى محاولات إغواء بمكياج مختلف أو تسريحة شعر أو نظرة عين، فقط العباية السمرا وبقية من مانيكير ردئ، وظل من كحل مغموس بعرق منزلي تفوح رائحته من الفيديو، الحقيقة التي ينكرها الحقيقة التي ينكرها الجميع أن العباية المغلقة تثير خيالات الرجل أكثر من الملابس المكشوفة، الجميع يكذب، وتصدق مشاهدات العباية.
الأكثر قراءة
-
فيلا وسيارات فارهة.. كيف أوقع مستريح مدينتي ضحاياه في الفخ؟
-
الاستعلام عن نتيجة حج القرعة بالرقم القومي2025.. رابط مباشر
-
القصة الكاملة لـ بيج رامي والزوجة الثانية من القفص الذهبي للخلع
-
بعد غياب طويل.. توفيق عكاشة يطل من نافذة "تيك توك" بنبوءة عن مصر
-
تواصل نشاطها الفني.. هل سحبت الكويت الجنسية من نوال الكويتية؟
-
04:55 AMالفجْر
-
06:25 AMالشروق
-
11:41 AMالظُّهْر
-
02:36 PMالعَصر
-
04:56 PMالمَغرب
-
06:17 PMالعِشاء
مقالات ذات صلة
لست ضد التصوف.. ولكن!
20 سبتمبر 2024 05:26 م
أكثر الكلمات انتشاراً