لست ضد التصوف.. ولكن!
لسنوات عشت بحي الحسين، أجاور سيد الشهداء وولي الأولياء، وبحكم عملي كصحفية أسعى وراء قصص البشر وحكاياتهم، كنت أجد في مولد الحسين والسيدة زينب فسحة من الوقت للتعرف على عالم آخر من الناس، أهل الله أو أهل الطريق، هؤلاء لن تجدهم في الساحات الكبيرة التي يجلس في واجهتها القطب الأعلى وصاحب الكرامات، وعلى يمينه ويساره حاشيته من رجال الأعمال والمستشارين والكتاب والصحفيين والفنانين، هؤلاء هم زمرة التيجاني وأشباهه، أما أهل الله الحقيقيين، فلا تجدهم في الساحات بل الأزقة الضيقة، يفترشون الأرض، ويقدمون ما تيسر من العدس أو الفول النابت، لا أطباق اللحم والمندي، لهؤلاء قصص أرويها لاحقا، أما قصتنا اليوم عن زمرة التيجاني وأشباهه.
تساءل الجميع كيف يسلم مثقفون مثل عمر طاهر وعبدالرحيم كمال، وغيرهم من الفنانين والمثقفين، عقولهم لأمثال التيجاني؟
سؤال مهم لكن الأهم منه هو ماذا يقدم التيجاني في الأساس لاتباعه؟
في التسعينات من القرن الماضي، ظهر عمرو خالد، كان شيخا بسمت العصر، لا يرتدي جلباب التشدد ولا العمامة الأزهرية، يستهدف طبقة معينة يقدم لها دين مختلف، دين قائم على العبادة الظاهرة.
استهدف خالد جمهوره من سكان مدينة نصر ومصر الجديدة ثم مع ظهور التجمعات انتقل للتجمع الخامس، بعيدا عن الأوساط الشعبية، فكانت شرائط الكاسيت الخاصة به تنافس شرائط عمرو دياب، يقدم الجنة مقابل الحجاب وشعائر وطاعات محددة بنبرة صوت متبتلة بالخشوع، معه لا ذكر للنار لكنه الوعد بالجنة.
كان عمرو خالد وفريقه هو السلاح الذي ظهر في التسعينات لمحاربة عنف الخطاب السلفي ونارهم المتقدة لكل شاردة وواردة، صوت جهوري امتلأت به سيارات التاكسي والمقاهي الشعبية، كان الصوت لمحمد حسين يعقوب وحسان وغيرهم من مشايخ السلفية المتشددة.
مع التطورات السياسية في مصر، وصعود التيار الديني المتمثل في الإخوان والسلفية الوهابية، وتراجع دين مجموعة عمرو خالد ورفاقه، تسيد العنف المشهد، عنف الخطاب الديني المتماهي مع عنف الخطاب السياسي، ثم استقرت الأوضاع بعد ثورتين وكان من الضروري البحث عن بوصلة بديلة لإيمان المصريين، وكانت الصوفية.
جماعات تؤمن بأن الإيمان هو إيمان العوام، وأن الإطعام هو خير الصدقات، وأن الله لا ينظر إلى صوركم بل إلى قلوبكم، وأن الإيمان ما وقر في القلب، دون النظر لأن يتبعه عمل يصدقه، إسلام سهل ولطيف دون التزامات ولا أوامر، حيث المحبة هي سبيل الله وطاعة شيخي هي نفحة إلهية، إن عاندتها عاندتني الدنيا ولم أفز بالآخرة، لا مجال لكلمة حق ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، فقط السمع والطاعة والحب.
الصوفية أساسها السمع والطاعة، منهج الحشاشين، ومنهج الإخوان، ومنهج السلفية، لكن في الصوفية السمع للمحبة والطاعة للشيخ والشيخ لا يطمع في الدنيا ولا شهواتها، ولا حكم ولا محكومين، إذن فالصوفية هي ما تليق بالمصريين في هذه المرحلة.
لم تعد الصوفية قاصرة على أهل الله في أزقة الحسين والسيدة زينب والسيد البدوي، بل تصوف أهل الترف، فانتقلت الحضرات إلى مدينتي والرحاب والكمبوندات المغلقة، لكن ماذا يدور في تلك الحضرات؟
إذا حضرت يوما تلك الحضرة فكن مستعداً لإغلاق هاتفك المحمول، طاعة للشيخ، وأن تجلس هائما مع صلوات على النبي لا تنقطع، ثم أحاديث عن معجزات السائرين على الماء، والمعتزلة في الصحاري لسنوات، والباحثين عن الله في الفلات، ثم ماذا؟.. لا شئ، اللهم إلا المزيد من الصلاة على النبي.
حين حضرت إحدى الحضرات ذات مرة لشيخة متصوفة يمنية زوجة أحد أكبر الأقطاب اليمنيين، والذي كانت تفتح لتلميذه أبواب الإعلام في مصر، سمعت حديثها الذي تنبهر به الجالسات في الحضرة، وتكرره وتعيد ذات القصص الإعجازية، وفي النهاية سألت سيدة تبدو عليها علامات التأثر والبكاء "هو حضرتك منين؟ فأجابتني: من الرحاب. فسألت مرة أخرى: هو حضرتك داخلة الإسلام جديد؟ إنتي إزاي متأثرة بالكلام ده؟
كل هذا لا يعني أنني ضد التصوف، لكني لا أسلم عقلي لشيخ، بعد أن أسلمت عقلي وقلبي لله، وما التصوف عندي إلا قول الإمام علي بن أبي طالب، حين زار العلاء بن زياد الحارثي وقد دخل عليه يعوده فرأى سعة داره بالبصرة: ”ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا وأنت إليها في الآخرة كنتَ أحوج؟ وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة. فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، قال: عليَّ به. فلما جاء قال الإمام: يا عديَّ نفسه! لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك أترى الله أحلَّ لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟! أنت أهون على الله من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، قال: ويحك إني لست كأنت، إنّ الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيغ بالفقير فقره”.
الأكثر قراءة
-
05:03 AMالفجْر
-
06:35 AMالشروق
-
11:45 AMالظُّهْر
-
02:36 PMالعَصر
-
04:54 PMالمَغرب
-
06:17 PMالعِشاء
مقالات ذات صلة
العباية السمرا وخيالات الرجل المصري.. نظرة نسائية
22 مارس 2024 08:15 م
أكثر الكلمات انتشاراً