الخميس، 19 سبتمبر 2024

05:34 م

محمد السعداوي

محمد السعداوي

A A

الْمَوْلِدُ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ

وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ *** وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ

الـروحُ وَالـمَـلَأُ الـمَلائِكُ حَولَهُ *** لِـلـديـنِ وَالـدُنـيـا بِهِ بُشَراءُ

ذكرى ميلاد خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، يوم استثنائي في حياة المسلمين كافة، تتنوع مظاهر الاحتفال بهذا اليوم بين المسلمين في كل بقاع الأرض، ولكن تبقى الاحتفالات في مصر لها طابعها الخاص والمنوع والممتد عبر التاريخ الطويل.

مصر تحتفل بالمولد النبوي الشريف احتفالا تجتمع في طياته معان ومفردات متنوعة لإرثها العريق القديم، وشخصيتها المتدينة المتصوفة المحتوية لكل المذاهب والأعراف ففي هذا اليوم نرى مزيجا من ألوان الثقافية الدينية كالأدعية والأناشيد والابتهالات، والموسيقى والغناء، احتفالات دينية وثقافية، عادات وثقافات وموروثات شعبية قبل أن تكون دينية، هذه مصر كانت وستظل كذلك...

في الأحياء الشعبية بالمدن وبجوار المساجد والأضرحة بين المتصوفة في القرى والمحافظات، يشارك الجميع في الاحتفال بمولد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- مظاهر متنوعة للاحتفال نختلف أو نتفق معها، إلا أنها واقع نتشارك فيها جميعا...

(حَلَقَات الذَّكَر)

في حلقات الذكر يجتمع أصحاب العمائم الخضراء مع لابسي الجلباب البلدي والإفرنجي أو حتى لابسي الجينز يقف الجميع في صفوف منتظمة، البعض حفاة والآخرون بنعالهم، يتمايلون جميعاً يميناً ويساراً، في تناغم يبدأ هادئا ثم تتسارع حركاته؛ يبدوا للناظر إليهم أنهم يرقصون، لا يشغلهم من حولهم، يرددون جميعاً عبارات مثل (الله،الله، الله) (مدد مدد مدد) (الله حي)....، من شدة التمايل والتسارع في الحركات يغيب بعضهم ذهنيا، لا يتحكم في جسدة ولا يتوقف ذكره ويسقط بعضهم على الارض مغشياً عليه، ينادى البعض من بعيد (سيبوه... مجذوب...).

تبدأ حلقات الذكر بمن نسميهم بالدراويش لابسي العمائم والأوشحة الخضراء، وسرعان ما تنضم إليهم جماعات من البشر شيوخاً وشباباً وصبية، متدينون وغير متدينين، متعلمون وأصحاب مهنوألقاب ووظائف مرموقة، مع متسولين ودراويش وغيرهم من كل الأطياف، بل ينجذب إلى تلك الحلقات أجانب وسياح يشاركونهم في حلقات الذكر!.

كل تلك المظاهر تعلوها أصوات المديح والأناشيد الدينية، ممزوجة بقرع الطبول والدفوف وأصوات عزف الربابة والناي، لتشكل لوحة بديعة يحتار الناظر إليها في تفسيرها، نعم تتعجب وتقف حائرا ناظر متأمل، والخلاصة أنك قد تنجذب وتشارك بحلقات الذكر التي يظن البعض أنها ترياق للقلوب بل هي طوق نجاة من عالم الضلال والمعصية، هي راحة نفسية وشعور وجداني وعلاج نفساني، يطهر القلوب التي تناجى ربها، وتذهب العقل عن التفكير في الهموم والأحزان، تدمع العيون وتتساقط مع الدموع هموم في النفس كامنة، لتخرج من حلقة الذكر وأنت في صفاء نفسي وسمو روحي، بل وتعب جسدي، تنام بعده هادئا مطمئنا متناسيا هموم الدنيا ومشاكلها.

وإذا ما دققنا وحللنا ظاهر المولد النبوي بل الموالد بشكل عام، نجد أطيافا وأشكالا من البشر تأتي إلي المولد لتتزود بلحظات من السعادة والروحانيه، لتكسر بها حالة الرتابة والملل في حياتها اليومية، وتتغلب بها علي مآسي الدنيا ومشاكلها، فلاح بسيط يقضي موسم الزراعة والري والحصاد، أو موظف أو ثري يذهب الى المولد ملتمسا البركة والراحة وزيارة الآولياء، والاستمتاع بالتواشيح والادعية، وطائفة أخرى من المشايخ والتجار والمنتفعين، ومشايخ الطرق الصوفية، ينصبون السرادقات ويعدون الولائم، فتلك مناسبة جيدة للدعوة الى الشيخ وطريقته، وفتح عينك تاكل ملبن... وقد جسد بإبداع واتقان عمنا صلاح جاهين المولد في رائعته (الليلة الكبيرة) تجسيداً بديعا، بمزج الشخصيات وتنوعها أو باللغة العامية التى تناسب مفرداتها ومصطلحاتها هذا الحدث .

(حَلْوَى الْمَوْلِدِ)

قبل أسابيع من يوم الاحتفال بالمولد النبوى الشريف، تقام شوادر بيع حلوى المولد النبوي في الطرقات والميادين، وقبل ذلك بشهور تنشط مصانع الحلويات مستعدة لموسم سنوي يفيض رزقة وخيرة على الجميع، نعم أهم مظهر من مظاهر الاحتفال هو الحلوى، التى لا يخلو منها بيت، وتعتبر هدية يحملها المصريون عند تزاورهم، بل هى واجب لابد منه في (الموسم) كما يسميها المصريون، يقدما الاب والأم  لبناتهم المتزوجات، والخطيب لخطيبتة والأخ لأخواته، … وقد يلام من لا يقوم بأداء تلك الواجبات،

والشادر هو تعريشة من العروق الخشبية (الأعمدة) تربط ببعضها بالحبال وتمثل هيكل الشادر أو السرادق،وتسقف وتطوق من بعض جوانبها بقماش الخيامية، تتدلى منها الإضاءات والقناديل المبهرة، وتعرض بداخلها أنواع الحلوى المختلفة، السمسمية والفولية والحمية، واللوزية والملبن بأنواعة وألوانه، واللديدة والشكلمه وغيرها … وتتميز حلوى المولد بخلوها من الماء واللبن والسمن، مما يجعلها تعيش لفترات طويلة دون الحاجة لحفظها بطرق خاصة.

أما عن عروسة المولد والحصان والجمل فقد انقرضت وحل محلها عرائس بلاستيكية أو ورقية؛ أفقدتها طابعا ورونقها ، فالحصان كان للأولاد الذكور والعروسة للبنات كانت تصنع من الحلوى(الدقيق والسكر) يلعب بها الصغار ثم تؤكل في النهاية كحلوى، أو تستخدمها الأمهات بالمطبخ كسكر لصنع أطباق مثل المهلبية، وكان الصغار يتنافسون فيمن يحافظ على عروسته أو حصانة لأطول مدة ممكنة دون أن يؤكل أو يكسر.

الفاطميون هم أول من صنعوا العروسة والحصان والجمل من الحلوي في المولد.. ومنذ ذلك الحين أصبحت الحلوي من المظاهر التي ينفرد بها المولد النبوي الشريف في مصر

يريالدكتورسميحشعلانأنالفاطميينكانواعليوعيتامبمفاتيحالشخصيةالمصريةوأدركوا أن هذا الشعب يجنح للفرح ويحب الاحتفال.. من هنا دعموا فكرة الاحتفالات ونصبوا لها الموائد الفاخرة. 

أن الاحتفال بمولد النبى «صلى الله عليه وسلم»، تحديدًا، كان من وسائل تقرب الفاطمين للمصريين حين رأى الفاطميون حب المصريين للنبى «صلى الله عليه وسلم» وآل بيته، وأنهم، أى المصريين، كانوا بصفة عامة يحتفون ببيت النبوة بعيدًا عن الأفكار السياسية ومعاركها خارج مصر. لذلك يمكن القول إن بدء الاحتفال بمولد النبى «صلى الله عليه وسلم» بشكل رسمى كان فى مصر فى عهد أول الخلفاء الفاطميين فى مصر، وهو المعز لدين الله فى نهايات القرن العاشر الميلادى. ومنذ ذلك التاريخ أصبح هذا الاحتفال من مفردات المصريين التى لم تنقطع عبر تاريخهم اللاحق.

(الزَّفَه) 

كما ذكرنا فقد بدأت الاحتفالات بذكرى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم فع بداية حكم الفاطميون لمصر،فقد سجلت بعض المصادر وصفًا لمواكب بعض الخلفاء الفاطميين فى الاحتفال بالمولد النبوى، يتقدم الموكب الأمراء وطائفة من العسكر والعلماء وصاحب بيت المال، ثم الخليفة يحيط به مقدمو صبيان الركابة متقلدين سيوفهم، ويزيد عددهم على ألف رجل. تصاحب الخليفة مجموعات من أقوياء الجند يبلغ عددهم خمسمائة، وخلفه الطبول والصنوج وطوائف من الفرسان.

وكان الخليفة يأمر ببعض العطايا، وأمر بإقامة مواكب تشارك فيها مجموعات من الجنود وإقامة الزينات في المساجد والطرقات، وأمر بمشاركة الاعيان والتجار، ويتقدم الموكب معه القضاه والشيوخ وكبار الدعاة.وأمر بمايلي «ستة آلاف درهم، أربعون صينية فُطرة، أربعمائة رطل حلوى، ألف رطل خبز، بخلاف السكر واللوز والعسل»، ويتم توزيع ذلك على القراء والفقراء. وكان الخليفة يجلس فى منطقة تقع أمام دار فخر الدين جركس الأيوبى الذى تم تشييده فيما بعد، ويسير الموكب حتى الجامع الازهر الشريف، حيث يعقد في صحنة اجتماع كبيب للمشايخ والعلماء والقضاة.

وانتقلت الاحتفالات من القاهرة الفاطمية الى ربوع العالم الاسلامي بصور وأشكال متنوعة، وفي داخل مصر انتقل الاحتفال بالمولد (الزقة) الى الصعيد ووجه بحري والقرى والمحافظات المختلفة، وكانت ومازالت زفة المولد ذكرى جميلة لكل المصريين.

على غرار موكب الخليفة تقوم كل مدينة أو كل قرية بإختيار (الخليفة) أو الشيخ وقد يكون في الغالب من الأشراف أو المنتسبين الى الطرق الصوفية أو المشايخ، في يوم الزفة تجهز الخيول وتتزين بألأوشحة والاعلام الخضراء، ويميز الحصان الذي يقل الخليفة، وقد يكون في بعض البلاد جمل يعلوه هودج مزين بالاقمشة والالوان الزاهية، يركب الخليفة الحصان ويتقدم الموكب، تحيط به جماعات من حاملى الأعلام والافتات المكتوبه على بعضها (لا إلاه الا الله) (محمد رسول الله) وبعضها بأسماء الطرق الصوفية المشاركة، وتنتظم حول الزفة صفوف وحلقات الذكر،والمنشدون وقارعي الطبول والدفوف، والربابة والناى، وتجتمع الاسر والعائلات، وكبار أهل القرية أو المدينة.

تبدأ جول الخليفة (محمد الشيخ) من (الجرن) وهو مكان واسع يجتمع فية أهالي القرية، ثم يبدأ الموكب  بشارع داير الناحية وهو الشارع الرئيسي بالبلد، وكلما أقترب من مكان سُمعت الزغاريد، والقيت الكراميل والملبس والحلوى من دكان جدنا عبدالعليم معوض أو ستي جازية أو الحاجة تقوى، وينضم الى موكب الخليفة أهل القرية من كل مكان، ويكون محظوظاً الطفل الذي يركب أمام الخليفة ولو لثوان أو دقائق معدودة مقابل ربع جنيه أو جنيه، أو اللي تجود بيه، لصالح الدراويش القائمين على الزفة.

كانت ولا زالت قرانا تقام بها زفة المولد، وان أصبحت الآن تصاحبها السيارات، بدل الجمال والخيول، وتستخدم السماعات بدلا الطبول والربابة والناي، غير أن كثير من بلادنا لم تتخل عن الزفة والمولد بشكله التقليدي القديم، خاصة في مدن وقرى الصعيد. 

وأخيرا وبصرف النظر عما نطالعة أو نشاهده من رفض بعض الشيوخ لظاهرة الاحتفال بالمولد النبوى الشريف، أوضح أن المصريين قد اتخذوا الموقف الذى يتناسب مع محبتهم لآل بيت النبوة حبًا خالصًا بعيدًا عن أى تطرف مذهبى أو سياسى. وأن هذه الاحتفالات لن تتغير. فمصر ستظل تحتفل بالمولد النبوى الشريف وستظل تجمع فى هذا الاحتفال مفردات ومعان كثيرة من إرثها القديم وشخصيتها المتصوفة والمحبة لكل المسلمين والمتقبلة لكل الأديان والأعراف، ويظل من يحاول تغيير ذلك مثلما يقول المثل (زي اللى رجع من المولد بلا حمص).

search