الجمعة، 22 نوفمبر 2024

03:45 م

رضا الفقي

رضا الفقي

A A

الإبراشي الذي يعيش بداخلنا

كثيرون أولئك الذين يرحلون عن الدنيا، ولكن هناك أناس يسكنون في الذاكرة كبصمة عصية على المحو، ومهما مرت الأيام، والشهور والسنون تبقى صفاتهم وشخصياتهم نادرة، واستئثنائية حاضرة في الذاكرة، والوجدان دائمة لا ترحل، فهم راسخون لا تشطبهم الأيام ولا السنون.

واحد من هولاء الذين تركوا بصمة واضحة، وجلية  في قلوب الآخرين، بصمة في مجالي  الإعلام، والصحافة لم، ولن يستطيع آخر ملء هذا الفراغ الذي تركه الظاهرة الفريدة المتفردة وائل الإبراشي، فوجهه فيه عينان تحملان في داخلها ذكريات وخبايا، وآلام، وآمال، وانكسارات، وانتصارات، ويتخلله ضحكة هادئة وابتسامة محسوبة.. وجهه أشبه بتاريخ مصر  في تلك الحقبة التي صاحبت ميلاده.

ففي عامه الأول كانت بداية المواثيق العامة للدولة الوليدة والجديدة، التي رسمت معالم النظام الجديد ـ نظام دولة ناصرـ وبعد أربع سنوات من عمره كانت النكسة، وهزيمة المشروع الذي حلم به ناصر، الذي استيقظ من جديد لحرب الاستنزاف.

وتمر الأيام، والسنوات ويأت النصر، وترتسم علامات البهجة على وجهه مثل كل مصر في ذلك الحين، إلا أن الأيام تقتنص منه  تلك الفرحة مع وفاة الأب.. وبدأ يشعر أنه وحيد في زحمة الحياة،  لا يدري ماذا يفعل، فغامت عيناه بالدمع كلما تذكر أباه.
وأمام المنزل كانت هناك أرض فضاء كوَّن فيها عالمه، وحلمه، أمله، وبدأت يده تتدرب على الحبو على الحروف، وقراءة الكلمات، وتشعبت مواهبه، واتسعت أبعاد العالم من حوله كلما أوغل في فهم رموز الشفرة التي أودعت في الأجيال المتعاقبة التي جاءت إلى الحياة.

قلت له ذات يوم ونحن في (شربين) بلد المنشأ والتكوين: في أثناء تجولي في بلدتنا شعرت أن جدرانها وشوارعها مفعمة بالحياة وفيها حياة أكثر من أماكن وشوارع أخرى، فأجاب قائلًا “شربين تلك الحائرة مابين صخب التجار، وحلم الفلاحين حيث إنها  تقع ما بين الدقهلية، ودمياط وهما عالمان متقابلان؛ عالم العقل والتجارة، وعالم العفوية الريفية، والزراعة جعلت لها ما ترى من زحمة الحياة وتعدد مشارب الأحياء”.

يمتلك الإبراشي ارتباطًا بالماضي دائما، ولا تظن أن شعور الإنسان الداخلي بالارتباط بينه وبين الماضي من جهة وبينه وبين المستقبل من جهة أخرى عبثًا وإنما لحكمة إلهية جعلت لهذا الارتباط دورًا في تكوين شخصية الإنسان، وارتباط هذه الشخصية بالمحيط واختزالها لكثير من المشاهد والخبرات ما يسمى بالذاكرة الفوتوغرافية القادرة على الالتقاط والاستيعاب ما جعل الابراشي معد للفهم والالتقاط، وهو ما صنع له تميزًا حيث قال عنه الجواهرجي عادل حمودة "إنه محقق صحفي من طراز فريد له عين حساسة، وذهن متوقد وروح تواقة للإبداع".

إن الكتابة الصحفية، أو التقديم الإعلامي مهنة يستطيع كثير من الناس أن يدعيها، ولكن الموهبة تصحح الوضع دائمًا، فلا يثبت على الزمن إلا قليلين، والإبراشي صاحب شخصية وأسلوب ميزه عن غيره، كما أنه صاحب مدرسة إعلامية، وحاسة فريدة تميز به عن الكثير من الصحفيين والإعلاميين، حاسة الوصول الي جميع الناس بمختلف ميولهم، وطبقاتهم او ما يطلق عليه مجازًا أدوات “نهرو” في التأثير على الجماهير.

وخبراء الإعلام يقيسون نجاح التأثير على المتلقي على نظرية “نهرو” ذلك السياسي الفذ في الإرسال فكانت موضوعاته الصحفية التي بدأها في روز اليوسف تلك المدرسة العريقة التي أخرجت العديد من عمالقة الفكر والأدب والصحافة هي ترجمان  للشارع المصري بما يعج به من أحداث وفعاليات وتقمصه الوجداني للمتلقي في إدارة برامجه التي بدأت بالحقيقة التي ناقشت كل القضايا  التي لم تكن مألوفة من قبل وغاصت في هموم وأوجاع المصريين.. واستمر خطه الإعلامي المميز في العاشرة التي وجد المصريون فيها ضالتهم  وسلوهم.
وأصبح البرنامج مفردة من مفردات حياة المصريين حينما تدق  الساعة العاشرة مساءً تتطلع عيون المصريين إليها لتجد متنفسًا لقضاياهم وتنفيسًا لهموهم خلطة من دراما الشارع؛ مأساته وملهاته تجدها بين طيات البرنامج الذي كان صوتًا حرًا وكلمة شجاعة وسوطًا على ظهور الفاسدين والمفسدين.
ويسجل سطرًا في سجل هذا الوطن كما "يرش" البسمات على درب المصريين ودربنا.. كم جبر قلوبًا وحقق أحلامًا كثيرة، ومسح دموعًا وأضاء شموعًا اجتمع عليها حلك الليل وهوج الريح.. اعتاد صاحبه أن يكون شعلة وهاجة حتى مع الريح العاتية التي كانت تكيد له عدوانًا وحقدًا.
رحلة الإبراشي تستطيع  أن تطلق عليها "الألم مع الأمل والألم يعانق القلم ليحقق التميز والتفرد"وكأنه كان يمثل قول نزار قباني الذي قال أستاذي الألم فالألم هو الذي علمني.. وليس من إنسان عظيم دون ألم عظيم.. فلقد كان الألم هو الحافز دائما لديه؛ حينما سأل عنه الشارع المصري في فترة غيابه خرج الإعلامي سيد علي قائلًا “وائل الإبراشي حالة خاصة من التميز يسبق الجميع والجميع من بعده متساوون”.

سألني بعض الإعلاميين  كيف يدير الإبراشي مشروعه الإعلامي قلت لهم باليقظة الدائمة.. والمذاكرة الدائمة، ومذاكرة كل صغيرة وكبيرة وكل شاردة وكل طلة وكأنها الطلة الأولى.. حالة من التحفز والترقب والسير في الطرق غير الممهدة التي لا يمشي فيها كثيرون خوفًا من مشقاتها ولكنه يسير فيها وحيدًا كي يصل لغايته المنشودة.

حارب الإبراشي كورونا وحذر منها الجميع إلا أنها التهمت رئتيه العامرتين بهواء الإبداع والتألق وظل يشاكس المرض والمرض يشاكسه، وانتصر في جولات كثيرة عليه وكان يملؤه الأمل في العودة إلى الشاشة وفي الأيام الأخيرة له كان يتحدث معي في ذلك وكله آمال في العودة، لكن القدر قال كلمته.

تأتي هذه الأيام في ذكرى ميلادك، وأنت تفارقني جسدًا ولم تفارقني روحًا، وما زالت صورتك أمامي، نفتقد إطلالتك الوديعة، رحلت دون وداع.. رحلت صامتًا هادئًا كما كنت دائمًا.

الناس نوعان موتى في حياتهم، وآخرون في بطن الأرض أحياء، وأنت دائمًا حاضر شاخص رغم الغياب، وعزاؤنا أنك تركت إرثًا إبداعيًا فريدًا، ومتفردًا، وحضورًا بهيًا شامخًا لا يغيب.

search