الجمعة، 22 نوفمبر 2024

04:39 م

"وشاح الماجستير".. أمل محفوظ.. حلم الطفولة يتحقق في منتصف العمر

الدكتورة المتخصصة في العلوم الزراعية أمل محفوظ

الدكتورة المتخصصة في العلوم الزراعية أمل محفوظ

منى الصاوي

A A

"لو بطلنا نحلم نموت".. كلمات أغنية للفنان محمد منير تختزل حكاية كفاح طويل، حكاية "أمل محفوظ" التي غادرت "حدائق القبة" بقلب محمل بالأحلام وعقل يقاوم اليأس، مع زوجها إلى مدينة العريش، تاركة وراءها ذكريات طفولة قاسية، وتعليمًا توقف عند أعتاب المرحلة الإعدادية.


رحلة البحث عن الذات

حملت أمل في رحلتها أمتعة قليلة، وطفلة تشبه الزهرة أسمتها رحاب، ورضيعتها التي حملت اسم هبة تنام بين ذراعيها، وقلبًا ينبض بالأمل. لكنها حملت أيضًا إرادة فولاذية، وعزيمة لا تلين، جعلتاها تتحدى ظروف الحياة القاسية، وتكمل مسيرتها التعليمية رغم كل العقبات.

بصوت هادئ، تروي أمل محفوظ (54 عامًا) لـ"تليجراف مصر" قصتها الملهمة، ورحلة طويلة بدأت من طفولة بسيطة في "حدائق القبة"، حيث كانت تجوب شوارعها بـ"ضفيرتين ومريلة كحلي".

تتذكر أمل أيام الدراسة في مدرستها، وشغفها بالعلم الذي دفعها لإكمال المرحلة الإعدادية، ثم الانطلاق نحو الثانوية التجارية، لكن القدر كان له رأي آخر، فأصيبت بوعكة صحية عنيفة أجبرتها على مغادرة مقاعد الدراسة، والبقاء في المنزل، حاملة في قلبها حسرة على حلم توقف قبل أوانه، لكنها لم تستسلم، فقد كانت تؤمن بأن "الإنسان لا يموت إلا إذا توقف عن الحلم".

شريك الحياة

"تقدم لي شاب طموح وذو أصل طيب"، تقول أمل، مستعيدة ذكريات مرحلة جديدة في حياتها، مرحلة الزواج وبناء أسرة.

كانت أمل لم تتجاوز 19 من عمرها حين قررت الارتباط بشريك حياتها، الذي وعدها بتحقيق حلمها في استكمال التعليم، وبدأ مشوارهما الزوجي في "حدائق القبة"، حيث عاشا حياة كريمة مليئة بالتحديات، لكن ظروف العمل أجبرتهما على الانتقال إلى مدينة العريش.

حلم البالطو الأبيض

"كنت أتمتع بطبيعة هادئة بشهادة جميع من حولي"، تقول أمل، كاشفة عن جانب من شخصيتها انعكس على طموحاتها المبكرة، فقد كان حلم "البالطو الأبيض والسماعة" يراود طفولتها، لكن رياح الحياة هبت عكس ما تشتهي سفن الأحلام، فلم تكمل أمل تعليمها الثانوي، وبالتالي ضاع حلم كلية الطب، إلا أنها وبشخصيتها الهادئة وإيمانها القوي، لم تستسلم للإحباط، بل أيقنت أن لكل إنسان رسالة في الحياة، وأنها قادرة على إيجاد رسالتها وتحقيقها في مجال آخر.

"كنت أرضع طموحي مثلما أرضع أطفالي، يكبران سويًا ويتغذيان من روحي"، تقول أمل. فلم ترضى أن تكون مجرد زوجة حاصلة على مؤهل متوسط، بل سعت لتكون سيدة يحتذى بها، ومثالًا للنجاح والقوة والطموح، وبالفعل، بدأت السيدة الخمسينية خطواتها على طريق تحقيق ذاتها، حيث التحقت بوزارة التربية والتعليم بوظيفة إدارية “كاتب خامس”، وهناك، أثبتت كفاءتها في عملها الجديد، واكتسبت ثقة الجميع بجدارة، لكن الطريق لم يخل من المعيقات، فقد واجهت أمل بعض الكلمات السلبية والمحبطة من البعض.

الزوج الداعم

"تناقشت مع زوجي حينذاك الذي لعب دور الأب قبل الزوج"، تخبرنا أمل، مشيرة إلى الدور الكبير الذي لعبه زوجها في دعم طموحها، فلم يقف حجر عثرة أمام أحلامها، بل أصر على تحقيقها، وكان له فضل كبير في اتخاذ قرار التقديم في المدرسة الزراعية، والتي كانت تبعد عشرات الكيلومترات عن مكان إقامتها، وهكذا، بدأت أمل رحلة جديدة في حياتها، رحلة التوفيق بين العمل والدراسة، وبين واجباتها كزوجة وأم، دون إهمال لأي جانب من جوانب حياتها.

في خضم رحلتها الشاقة، فوجئت أمل بقرار إلغاء عقود العمل المؤقتة بوزارة التربية والتعليم، ما هدد "أكل عيشها" وانقطاع عملها، لكن يد القدر كانت لها ترتيبات أخرى، فقد وهبها الله "اختلافًا" كان بمثابة طوق نجاة، إذ كانت أمل تعاني ضعفًا حادًا في النظر، جعلها واحدة ممن ينطبق عليهم شروط نسبة الـ5% لذوي الهمم، وهكذا، بدأت مرحلة جديدة من التحدي في حياتها، حيث تقدمت بأوراق تعيينها بمحافظة شمال سيناء، وتم تعيينها بالمقر الرئيسي في قسم الحسابات.

فترة اختبار

"وضعت في فترة اختبار لمدة 6 أشهر، كانت شريطة الالتزام والحضور بمواعيد محددة"، تقول أمل، موضحة التحدي الجديد الذي واجهها في عملها، فقد أعاقتها هذه الشروط عن مواصلة تعليمها في المدرسة الزراعية، الأمر الذي دفعها إلى تقديم طلب انتداب إلى وزارة التربية والتعليم، ليتم نقلها مرة أخرى إلى الوزارة على نفس الدرجة المالية، لكن أمل لم تتخل عن حلمها، فبعد أشهر قليلة، حصلت على درجة الدبلوم الزراعي، وعليه أجرت تسوية بالوزارة بناءً على شهادتها الجديدة. لتتحول من موظفة إدارية إلى مدرسة تربية زراعية، مهنة مارستها بشغف لمدة 15 عامًا.

كادر المعلمين

جاء ما يسمى بـ"كادر المعلمين" ليفتح آفاقًا جديدة في حياة أمل، ويفك حصار الطموح الذي تكبل من التزامات الحياة.

تقدمت أمل بالاستمارة لخوض التجربة، متطلعة إلى تحسين وضعها المهني والمادي، لكن مديرة المدرسة حينذاك عارضت الأمر بشدة، بعبارة جارحة على حد وصفها: "أنتِ مؤهل متوسط.. عمرك ما هتبقي زينا".

أخرست أمل جميع الألسنة المحبطة بالنجاح، فبعد أن تجاوزت عقبة "المؤهل المتوسط"، وأثبتت جدارتها في "كادر المعلمين"، بدأت رحلة جديدة في حياتها، رحلة البحث عن الأوراق المطلوبة للالتحاق بالجامعة، تقدمت أمل إلى كلية الزراعة بجامعة العريش "التعليم المفتوح"، واستطاعت أن توفر مصاريف الجامعة من راتبها في المدرسة الزراعية، عازمة على تحقيق حلمها الذي طالما رافقها.

"البيت كان بمثابة المعسكر، الجميع ممسكًا بكتابه وقلمه، الجميع يذاكر"، تصف أمل الجو العلمي الذي ساد منزلها خلال فترة دراستها الجامعية، فقد وضعت نظامًا صارمًا لإدارة المنزل، حيث كان كل شيء يسير بمواعيد محددة، والجميع يلتزم بمهامه، رافعين شعار "لا مجال للفشل". 

تشير أمل إلى إنجازات أبنائها الذين ساروا على خطاها في طلب العلم، فتقول، "رحاب حصلت على بكالوريوس تربية رياض الأطفال، وهبة حصلت على ليسانس الحقوق بجامعة عين شمس، وأحمد حاصل على بكالوريوس الإعلام بجامعة سيناء، ومحمد طالب بكلية الآداب قسم الجغرافيا".

وتضيف، "أنا جدة لـ 5 أحفاد"، معبرة عن سعادتها بعائلتها التي تمثل ثمرة كفاحها وتضحياتها.

فصول محو الأمية 

وفي الوقت الذي كانت فيه أمل تسبح عكس التيار، ساعية نحو تحقيق أحلامها، لم تنس دورها في خدمة مجتمعها، فقد أرادت أن تؤثر فيمن حولها بصورة إيجابية، ففتحت فصل محو الأمية في مدرسة بنك سيناء، واستطاعت أن تعلم العشرات من الرجال والسيدات القراءة والكتابة، ومنهم من التحق بوظائف حكومية اشترطت إجادة القراءة والكتابة.

"كنت أمسك أيديهم وأعلمهم يكتبوا على السبورة"، تقول أمل، مستعيدة ذكريات تجربتها في تعليم الكبار محو الأمية، تجربة أثمرت ثمارًا طيبة، وتروي قصة إحدى طالباتها في فصل محو الأمية، تدعى فوزية، والتي حصلت على درجة البكالوريوس بعد أن تعلمت القراءة والكتابة.

وفي مفارقة عجيبة، التحقت أمل بالجامعة مع ابنتها رحاب، ليذهبا سويًا إلى مقاعد الدراسة، ويتخرجا في عامٍ واحد، كانت الأبنة تدرس في كلية التربية، بينما كانت الأم تتابع دراستها في كلية الزراعة.

وتتذكر أحد أكثر المواقف تأثيرًا في حياتها، وهو تحضيرات زواج ابنتها رحاب في الوقت الذي كانت فيه تصارع الوقت للانتهاء من الامتحانات، وتروي بعاطفة جياشة موقفًا لم تستطع نسيانه، حيث أحضرت الأم "جيرب" العروسة وصممته بالورود في المدرج بعد الانتهاء من الامتحان نظرًا لضيق الوقت.

في عام 2013، وصلت أمل إلى محطة هامة في رحلتها، محطة التخرج من الجامعة وحصولها على درجة البكالوريوس. وبهذا الإنجاز، أصبحت بدرجة أخصائي تدريب بإدارة التعليم التخصصي.

قطار الطموح

لكن قطار طموح أمل لم يتوقف عند هذه المحطة، بل واصل سيره نحو آفاق جديدة، فقد التحقت بمرحلة الدراسات العليا بنفس مجال تخصصها، وقدمت رسالة حملت عنوان "تبني زراعة محصول الجوار في شمال سيناء"، وحصلت على درجة جيد.

وأخيرًا، وصلت أمل إلى محطة التتويج، محطة مناقشة رسالة الماجستير، والتي ستقام غدًا الثلاثاء، في معهد العلوم البيئية ببئر العبد، التابع لجامعة العريش، بحضور أسرتها التي لطالما دعمتها وساندتها في رحلتها.

search