
لم نكن أسوياء يومًا.. بل كنا نتأقلم مع ما لم نفهمه!
يتكرر ذلك السؤال المربك مراراً، هل أصبحت الاضطرابات النفسية موضة أم هي مجرد مسميات يتناقلها الناس لادعاء المعرفة؟ السؤال بحد ذاته يعكس جزءًا من المشكلة، لكنه أيضًا يكشف عن أزمة أعمق تتمثل في سوء فهم الاضطرابات النفسية، وفي الفوضى التي صنعها عصر السرعة والمعلومات المتداولة بلا رقيب!
كثيرًا ما نسمع الجملة الشهيرة: "زمان لم نكن نعرف أي اضطرابات نفسية، ورغم قسوة الحياة كنا أشخاصًا أسوياء." لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا مما يبدو. لم نكن أسوياء يومًا، بل كنا نتأقلم مع ما لم نفهمه. كنا نغض الطرف عن المشاعر الثقيلة التي تداهمنا، نكتم الألم، ونعيش وسط قسوة غير مُسماة. فالاضطرابات النفسية كانت موجودة دومًا، لكنها بقيت طي الكتمان. لم يكن هناك مسميات لما نمر به، ولم نملك الأدوات لفهمها، فضلاً عن أننا كنا نتجاهل المعاناة أو نعتبرها جزءًا من الحياة الطبيعية.
لن ننكر أبدا الفوضى التي ساهمت فيها بشكل كبير مواقع التواصل الاجتماعي، والذي أعطت الفرصة للجميع في خوض مواضيع تخصصية بحتة، وأعطت وجه آخر لمسميات الاضطرابات النفسية، حيث أصبح الجميع يدّعون قدرتهم على تشخيص من حولهم دون أدنى معرفة منهم بمعنى الكلمات التي يرددوها، يحضرني دائما مشهد احمد زكي في فيلم "البيضة والحجر" وهو يلوم الساحر على ذكر أسماء الجن ليستحضرهم، ويقول له أنت لا تعلم معنى هذه الأسماء فهي ستضرك، هذا فعلا ما نعيشه اليوم في عالم التواصل الاجتماعي، الكل يستعين بأسماء لاضطرابات ولأمراض نفسية دون أي علم منه بما يقوله، وبخطورة وقع هذا التشخيص على الأفراد المحيطين به، وفعلاً فوضى المسميات تحصارنا من كل جهة.
ولكن هذا أبدا لا يعني أننا أصحاء، سليمين، معافين، فإحصائيات الاضطرابات النفسية عالميا مخيفة، أكثر من مليار شخص حول العالم يعانون اضطرابات نفسية واضحة ومشخّصة تشخيص طبي، 5% من سكان العالم يعانون من اضطراب القلق، و6% من سكان العالم يعانون من الاكتئاب، بالإضافة إلى الأمراض والاضطرابات الأكثر تعقيدا، التي أصبحت تغزوا العالم دون تراجع.
فرغم أن الحياة أصبحت أكثر سهولة عما سبق، ووسائل الراحة متوفرة، لكن للأسف الأمر ترجم عكسيا على المجتمعات، بعدما سيطر الخمول على الأجيال الجديدة التي تحتضن الأجهزة، مما أدى إلى ظهور اضطرابات معقدة يعاني منها عدد كبير من الأطفال، مثل القلق الاجتماعي، فرط الحركة، وضعف التركيز، الاكتئاب وغيرهم.
بالإضافة إلى المشاكل الاجتماعية الخانقة، التي تعصف بالعائلات واستقرارها، من خلافات زوجية وطلاق وغيره بسبب المقارنات بالحياة البلاستيكية للمشاهير على مواقع التواصل الاجتماعي، وسيطرة مفهوم الماديات والركض السريع لأجل اللحاق بركب الحياة الفخمة التي يراها الجميع في الصور ولا يعرف ما حقيقتها أو كواليسها المخفية، أصبح الجميع يعيشون في بيئة سامّة مليئة بالمقارنات، حيث الناس يطاردون حياة زائفة يراها الجميع في الصور ولا يعرفون حقيقتها، وكل هذا يعد بيئة خصبة للاضطرابات النفسية بمختلف أشكالها، من البسيط منها إلى المعقّد والأكثر تعقيداً.
الحقيقة أن هناك شعرة رقيقة جدًا تفصل بين السوي نفسيًا وغير السوي. هذه الشعرة قد تنقطع في أي لحظة، بسبب الضغوط التي تحاصر الإنسان بلا هوادة. لكن هل يعني هذا أننا فقدنا السيطرة؟ فعلا هناك فوضى في مجال التشخيص والعلاج النفسي، ولكنها ربما قد تصبح يوما ما فوضى خلاقة، ربما ستدفع الناس لاستيعاب أنفسهم وذويهم بشكل أكبر وأحسن. صحيح أن هناك ارتباكًا في التعامل مع الاضطرابات النفسية بعدما اختلط المختص بغير المختص، وضاع الناس بين الطبيب النفسي والمعالج النفسي واللايف كوتش، لكن ربما قد يكون هذا الارتباك بداية التغيير الحقيقي نحو التوعية التي قد تُثمر في خلق بيئة صحية تدعم الصحة النفسية، أو هذه الفوضى قد تدفعنا لمزيد من البحث والفهم، وتحول هذا الزخم إلى قوة إيجابية تعزز التقبل والمعرفة.
باختصار، الاضطرابات النفسية ليست موضة ولا مجرد كلمات عابرة. هي جزء من تعقيد النفس البشرية وضغوط الحياة الحديثة. وبين الفوضى والتشخيص الخاطئ، هناك فرصة لبناء وعي جديد يعيد للنفس البشرية مكانتها الحقيقية. لنصل في النهاية إلى عالم يفهم أن الصحة النفسية ليست رفاهية، بل أساس لحياة متوازنة وصحية.

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
إخفاق دراما رمضان ومتلازمة "مشية الغراب"
24 مارس 2024 01:52 م
"الحشاشين".. فانتازيا قد تظنها تاريخًا
15 مارس 2024 02:57 م
أكثر الكلمات انتشاراً