للقاهرة الكلمة الأخيرة.. قلب فلسطين ينبض في جسد مصر
كانت الشمس تحاول إيجاد طريقها إلى سُكنى أرض في ظاهرها صلب وفي باطنها دم. انقضى مساء الجمعة وجاء فجر سبت السابع من أكتوبر في العام 2023، وعقارب الساعة تٌشير إلى مجموعة من الملثمين يخترقون سياج حدودي للوصول إلى مستوطنات غلاف غزة، يهجمون برًا عبر مقاتلين، وبحرًا عبر ضفادع بشرية، وجوًا عبر فوج الصقر، وهُنا توقفت الساعة تمامًا، ليس ما قبل هذه اللحظة كما هو بعدها، لا في فلسطين، ولا في مصر.
الحال في القاهرة كان مختلف تمامًا في تلك اللحظة، أزمة اقتصادية يحاول الجميع الخروج منها، حكومة وشعبًا، ونقاشات عامة واسعة في كل شيء، الدين والرياضة والسياسة والفن والثقافة، وكم هائل من "التريندات" التي لا ترى خريفًا أبدًا، لكن بعد الهجوم كل شيء اختلف، سقطت أوراق التوت عن أشياء، وأسدل الستار على أخرى، وعاشت مصر واحدًا من أصعب الاختبارات في تاريخها الحديث.
مصر على جبهة الحرب النفسية
الهجوم الذي شنته المقاومة الفلسطينية على عناصر الاحتلال الإسرائيلي لحق به هجوم من الاحتلال على مصر، وكأن القدر يؤكد أن ثمة رابط تاريخي وقدري بين مصر وفلسطين.
في أعقاب طوفان الأقصى وبدء الانتقام الإسرائيلي من الفلسطينيين، بدأت نيران الحرب تطل مصر بحرب نفسية ودعائية لم يسبق أن تعرضت لها القاهرة في تاريخها، بدأت بخبر مجهول يشير إلى أن مصر حذرت تل أبيب من الهجوم، إلا أن ذلك الخبر ذهب أدراج الرياح سريعًا ولم يجد له صدى واسع.
بدأت مصر في حشد قواها الدبلوماسية والسياسية والإعلامية للتصدي لبربرية إسرائيل المعروفة قبل أن تتم حتى، وبدأت إسرائيل في محاولة تنفيذ مخططها القديم لضرب العمق المصري وإقصاء القاهرة من المعادلة الفلسطينية، وتنفيذ مخطط التهجير.
وفي سبيل ذلك بدأت نشر الشائعات، مثل إرسال مصر شحنات فاسدة من الأغذية للفلسطينيين، وفتح الأنفاق لتهريب الأسلحة للمقاومة، ووجود رشاوى بمعبر رفح تحرم الفلسطينيين من النجاة، وغلقه في وجه النازحين.
لم ترضح مصر لكل هذا الابتزاز وتأثر السلامة وتبتعد عن القضية، بل واجهت تلك الحرب الدعائية والنفسية وواصلت تقديم دورها لوقف العدوان وإنفاذ المساعدات والتصدي لمحاولات التصفية جسدية كانت أو على صعيد القضية.
صفقة القرن وبدء التهجير
بعد طوفان الأقصى جرى الحديث على نطاق واسع حول صفقة القرن وتنفيذ مخطط تهجير الفلسطينيين في قطاع غزة إلى سيناء، ذلك الحديث لم يتوقف لحظة، بل أن الآلة الإعلامية الإسرائيلية ووكلائها مثل الإخوان، أكدوا بما لا يدع أي مجال للشك أن مصر قبلت تهجير سكان قطاع غزة، وقبضت الثمن مليارات تاريخية وإزاحة ديون قاصمة.
تأكيدات من كل صوب وحدب تضع القاهرة فريسة للضغوط الداخلية والخارجية، وجولات ولقاءات، السري منها أكثر من المعلن، من أجل ركوع القاهرة لقبول الصفقة التي تريح الجميع، من وجهة نظر صناع القرار العالميين.
لم تصمت مصر كثيرًا، بل خرج رئيسها عبدالفتاح السيسي، في مساء 23 نوفمبر 2023، ليحسم القضية مبكرًا، شدد أنه لا تهجير للفلسطينيين إلى مصر، والقاهرة موقفها حاسم لا ريب فيه، فالتهجير من خطوط مصر الحمراء، لم ولن تقبل أو تسمح به. لتحافظ مصر على نبضات قلب القضية الفلسطينية دون أن تجهز على حقوق وأحلام الملايين، حتى وإن دفعت الثمن.
مصر تحاصر أهل غزة
حاول الجميع أيضًا إظهار مصر في رداء قابيل الذي قتل أخيه هابيل، فقالوا إن مصر تحاصر أهل غزة وتمنع وصول المساعدات إليهم، بل وتغلق معبر رفح في وجه النازحين، لكن زيارة الأمين العام للأمم المتحدة والوفود الأمريكية والأوروبية والعالمية إلى سيناء، التي نظمتها مصر، قطعت الشك باليقين عن من القاتل ومن البريء.
مصر منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على القطاع وحتى يومنا هذا، صاحبة العدد الأكبر من المساعدات لسكان قطاع غزة، إذ قدمت قرابة 90% من المساعدات، وحشدت كل قوى المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية لإنفاذ ما ينقذ الأبرياء.
بل أن مصر أقامت مستشفيات ميدانية، واستقبلت آلاف الجرحى، وعشرات الآلاف من النازحين، وقدمت كل شيء في سبيل إنقاذ الناس.
فيلادلفيا وكامب ديفيد
وفي سبيل وضع مصر تحت ضغوط الجبهة الداخلية، ومحاولة توريطها في حرب إقليمية، ذهبت قوات الاحتلال إلى السيطرة على محور فيلادلفيا الحدودي، وبدأ الترويج لأحاديث القوة والقدرة والتحكم، وأن مصر لن تقدر على المواجهة، ليدخل المحور ضمن النقاش حول أي صفقة تنزع عن مصر دورها تجاه القضية الفلسطينية، وإما تقصيها من المشهد أو تورطها في حرب إقليمية.
وفي ظل الحديث عن عدم قدرة مصر على الرد على خرق اتفاق السلام -حتى وإن كان فيلادلفيا ليس ضمن بنوده- كانت مصر تعمل بهدوء وثبات، وهو ما تم الكشف عنه مؤخرًا.
الإعلام العبري لطيلة أشهر ماضية يصرخ مما أسموه "توحش الجيش المصري"، الذي بات مرعبًا وخطيرًا ويتحرك داخل سيناء مخترقًا كامب ديفيد، يقيم منصات إطلاق صواريخ، وينفذ اصطفافات عسكرية، بل وأن رئيس أركان الجيش المصري ذهب بنفسه إلى معبر رفح في سبتمبر 2024، ليتابع القوات العسكرية هناك، في رسالة واضحة إلى الجاهزية لكل السيناريوهات.
لم تبع مصر فلسطين بمحاولة وضعها أمام خيارين، لا أمر منهما، بل صمدت ومارست قوتها الرشدية في تأمين حدودها وتوصيل رسائلها المختلفة، وفرضت على الجميع وجودها كضمان قدري للقضية الفلسطينية.
الجيش الرابع الدبلوماسي
إن كان لدى مصر جيش ثاني وثالث ميداني، فهي أيضًا تمتلك جيش رابع دبلوماسي، شحذ الهمم وحشد قواته في معركة دبلوماسية كبيرة من أجل القضية الفلسطينية، فمنذ اندلاع أحداث طوفان الأقصى منذ أكثر من 15 شهرًا، ومصر بدءًا من رئيس الدولة مرورًا بكل الوزراء المعنيين والدبلوماسيين، يعقدون مئات اللقاءات واتصالات من أجل وقف العدوان.
الرئيس عبدالفتاح السيسي، مارس نشاطًا هو الأكبر منذ توليه رئاسة الجمهورية في عام 2014، عقد عشرات الاجتماعات والاتصالات من أجل وقف العدوان، وحتمية إنفاذ حل الدولتين، ورفض كل الخطط المُعدّة.
مصر أيضًا أمام المحافل الدولية، سواء كانت اجتماعات الأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي أو المحكمة الجنائية الدولية، لم تكف للحظة عن الدفاع عن القضية الفلسطينية وحقوق الأبرياء. بل وفي نوفمبر 2024 انضمت للخطاب الذي تم توجيهه إلى السكرتير العام للأمم المتحدة ورئيس مجلس الأمن ورئيس الجمعية العامة للمطالبة بوقف تصدير الأسلحة لإسرائيل التي يمكن استخدامها ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك في القدس الشرقية.
وفي بيان رسمي، قالت مصر إنها تطالب مجلس الأمن بضرورة الاضطلاع بدوره في تحقيق السلم والأمن الدوليين، واتخاذ إجراءات ملموسة لحماية المدنيين وضمان المحاسبة لإسرائيل.
إقصاء الصقر
قبل ذلك التاريخ، وفي مايو 2024، لم تنجح إسرائيل في تشويه مصر أو تنفيذ مخططاتها ضدها للانقضاض على القضية الفلسطينية، فحاولت جاهدة إقصاء القاهرة من المفاوضات لوقف إطلاق النار في القطاع.
كانت مصر نجحت في نوفمبر 2023، في تنفيذ هدنة قصيرة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، وأشرفت على تبادل الأسرى وإنفاذ المساعدات، بمشاركة الوسطاء في قطر والولايات المتحدة الأمريكية، لكن الدور الذي لعبته كان مُقلقًا لإسرائيل، لذا استخدمت أدواتها الإعلامية لتشويه مصر ومحاولة إخراجها من المعادلة في المفاوضات اللاحقة.
تقارير مشبوهة خرجت لتشويه اللواء أحمد عبدالخالق، مسؤول الملف الفلسطيني في المخابرات العامة المصرية، والتي قالت إنه أفسد المفاوضات وخدع مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية، ويليام بيرنز.
تلك المحاولة باءت بالفشل الذريع، ولم يتم إقصاء المفاوض المصري من المفاوضات، بل ظل يلعب دوره المحوري والفاصل في حتمية الوصول إلى هدنة وإنقاذ مئات الآلاف، وهو ما تم بالفعل.
مستقبل فلسطيني ترسمه مصر
وسط كل تلك المعارك الضروس، كانت مصر تفتح أبواب قاهرتها لاستقبال الفصائل الفلسطينية المتناحرة، على رأسها حركتي فتح وحماس، من أجل إقرار مصالحة وطنية شاملة تجمع شمل الفلسطينيين، وتكتب النهاية لسنوات من الحرب الداخلية والاقتتال بين أبناء البلد الواحد.
استضافت مصر الفصائل من أجل رسم مستقبل جديد للفلسطينيين، وتوحيد الجبهات، وتشكيل لجنة إسناد غزة التي تتولى مسؤولية الحكم في القطاع في اليوم التالي لما بعد وقف الحرب، ونجحت القاهرة في الوصول إلى اتفاقات جذرية في ذلك، لتحافظ على القضية حية دون اقتتال أو خلاف داخلي.
إن ما سبق ذكره سلفًا، لا يؤكد سوى حقيقة واحدة، أن فلسطين هي قضية القضايا بالنسبة لمصر، لم تحيد القاهرة عنها يومًا، ولم يتراجع دورها المحوري في الحفاظ عليها حية، رغم كل محاولات القتل، وأن مصر تبقى الأمل الأول والدرع الحصين لتلك القضية وللفلسطينيين.
الأكثر قراءة
مقالات ذات صلة
تامر إبراهيم يكتب: الجهاد في سبيل الشيطان (4).. الإخوان والانتقام من عبد الناصر
25 يناير 2025 03:38 م
تامر إبراهيم يكتب: أحمد الشرع نموذجًا.. يضاجعون السبايا ولا يصافحون النساء
04 يناير 2025 05:35 م
تامر إبراهيم يكتب: الجهاد في سبيل الشيطان (3).. الإخوان جنود الاستعمار
28 ديسمبر 2024 08:09 م
تامر إبراهيم يكتب: الجهاد في سبيل الشيطان (2).. البنا وقطب وإخوان الخيانة
20 ديسمبر 2024 10:45 م
أكثر الكلمات انتشاراً