تامر إبراهيم يكتب: الجهاد في سبيل الشيطان (4).. الإخوان والانتقام من عبد الناصر
تامر إبراهيم
استعرضنا في الحلقات السابقة طبيعة علاقة جماعة الإخوان مع الاستعمار البريطاني، وكيف بدأت من حسن البنا وتطورت مع سيد قطب، وكيف أن الاستعمار البريطاني بأجهزته الاستخبارية استخدم الجماعة لضرب القوى الوطنية وتنفيذ أجندته في مصر.
لكن ثمة تطورات حدثت بعد ثورة 23 يوليو في العام 1952، وقبل ذلك الحراك ببضع سنوات، وكل ما جرى بعد ذلك ليس كما قبله، فالجماعة تطورت وتغيرت، رحل حسن البنا البراجماتي رجل القصر والملك والاحتلال، الذي كان يجيد عقد الصفقات والتحالفات، وجاء أسلافه بقناعات مختلفة أثر فيها وحولها بشكل دراماتيكي سيد قطب، فقيه الإرهاب الأول والأب المؤسس لفكر الجهاد المسلح في سبيل إقامة الدولة الإسلامية، والذي كان ملهمًا ومؤثرًا في قواعد تأسيس أعنف الجماعات الإرهابية في العصر الحديث.
الإخوان والضباط.. تحالف وخيانة
قبل أن يموت حسن البنا في فبراير 1949، أي قبل ثورة يوليو بـ 3 سنوات، التقت خيوط الجماعة بخيوط مجموعة من الضباط الصغار النشطين داخل الجيش المصري، فالجماعة كانت تذهب إلى إنشاء التحالفات سرًا وتداعب كل الأطراف وتسعى دائمًا لامتلاك أوراق داخل أي لعبة.
كان عبد الناصر ضابط شاب حينما ذهب إلى إجراء حوارات مع جماعة الإخوان المسلمين، بعض الروايات تشير إلى أنه انضم للجماعة وبايع المرشد العام قبل أن ينقلب عليهم، فيما تقول روايات أخرى أن عبد الناصر تحالف مع الإخوان كفصيل سياسي متواجد على الأرض لكنه انقلب عليهم بعدما انكشف له حقيقة مخططاتهم.
ولأن التاريخ مادة تخضع لطرح كاتبها منتصر كان أو مهزوم، فإن الثابت الوحيد في ذلك الموضع أن جمال عبد الناصر تحول من حليف للإخوان من وجهة نظرهم في بادئ الأمر، إلى عدوهم الأول.
جمال عبد الناصر قبل عقود من الزمن، حكى ما تم سرده بعد موته بسنوات كبيرة، فالإخوان حتى بعد ثورة 1952، كانوا يتحالفون مع الاستعمار البريطاني، وبعد زيادة الصدام مع مجلس قيادة الثورة، ذهبوا إلى البريطانيين يعرضون عليهم طلب التمويل في مقابل الإطاحة بعبد الناصر.
قال جمال: "لا هم إخوان ولا هم مسلمين هم ناس حاقدين والحقد يملأ قلوبهم. قياداتهم تعاونوا مع القوى الاستعمارية وأعداء مصر. الإخوان حركة يمولها الاستعمار، فهم أعلنوا الحرب علينا بعد أن رفضنا وصايتهم على الثورة، وحينما كنا نتفاوض مع الإنجليز على الجلاء، الإخوان عقدوا اجتماعات سرية مع أعضاء السفارة البريطانية وعرضوا عليهم الاستيلاء على السلطة".
كانت حركة 23 يوليو 1952 ثورة في عين الإخوان حينما نجحت في إزاحة الملك، لكنها تحولت لانقلاب في رواياتهم اللاحقة بعدما فشلوا في التحكم بها وفرض وصايتهم على ضباط الجيش، وتلك عادتهم التي لا تنقطع أبدًا، فهم يباركون أي حراك يتحكمون به، ويلعنون ما دونه، المهم للجماعة هو التمكين وليس الوطن.
تاريخ العداء وتحالف الأعداء
بدأ الصدام بين جمال عبد الناصر وجماعة الإخوان في العام 1953، بعدما التقى عبد الناصر بمرشد الجماعة لمناقشة الأفكار، فطلب المرشد فرض الحجاب في مصر ورفض تعليم المرأة وغلق المسارح والسينما وتحويل مصر إلى دولة دينية بالكامل يحكمها الشريعة -وفق تفسيراتهم- وانطلاقا من الرؤية التي تبنتها الجماعة بأن المجتمع بأكمله كافر وخارج عن الإسلام ويعيش في الجاهلية.
وفي تلك الأثناء أيضًا كانت بوادر العداء تظهر بين جمال عبد الناصر وبريطانيا، فالرجل ذهب لعقد اتفاقية الجلاء في العام 1954، إلا أن قوميته كانت تثير شكوك البريطانيين وقلقهم تجاهه، فهو لم يكن شخص يمكن السيطرة على أفكاره وأفعاله، ونزعته التحررية بالضرورة تقف أمام الخطط والمصالح الاستعمارية.
من هنا بدأ الاستعمار البريطاني وجماعة الإخوان محاربة عبد الناصر في آن واحد، وهو الأمر الذي يمكن التحقق منه من مذكرات قيادات الجماعة أنفسهم واعترافاتهم. هل تدرك معنى أن تتشارك خططك وأفعالك مع خطط وأفعال أعداء الأمة؟ّ
تشويه وتضليل من أجل الانتقام
علي عشماوي، أحد أخطر رجال الإخوان عبر تاريخهم، كتب مذكراته "التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين"، والتي حملت الكثير من الاعترافات الكاشفة والفاضحة.
قال عشماوي في مذكراته إن السبب في حل جماعة الإخوان في خمسينيات القرن الماضي، كان هذا الخلاف الذي نشب بين الجماعة وجمال عبد الناصر على تفاصيل المفاوضات بين رجال الثورة والإنجليز قبل الجلاء عن مصر.
واستكمل: "اختلاف الإخوان في هذا الأمر كان نابعًا من إحساسهم بخروج عبد الناصر ومن معه على قيادتهم، وقد تم اختيار هذا الموضوع ليكون سببًا للصدام لما له من ثقل وطني في حس الناس، مما يعطي للإخوان تأييدًا شعبيًا في صدامهم مع رجال الثورة".
أي أن الإخوان رأوا عبد الناصر لا يحقق آمالهم وطموحاتهم وخارج عن ملتهم، فحاولوا استغلال مفاوضات الجلاء -بالتضليل- لتكوين حشد شعبي ضد عبد الناصر، فقالوا إن الإخوان يفضلون الكفاح المسلح في سبيل الوطن لأن عبد الناصر سيمنح الإنجليز قناة السويس ويبيع قضية مصر، وهو بالضرورة ما ثبت كذبه لأنه عبد الناصر أعلن تأميم القناة في وقت لاحق وبسبب ذلك القرار وقع العدوان الثلاثي على مصر.
الإنجليز والإخوان في خندق واحد لمحاربة عبد الناصر
علي عشماوي ليس الوحيد الذي اعترف بعداء الجماعة ضد عبد الناصر ومحاولة استخدام الحرب الدعائية ضده، بل أن حسن الهضيبي، خليفة حسن البنا، والمرشد الثاني للجماعة، كتب عدة منشورات لحشد أعضاء الحركة في سبيل ثورة مسلحة، فكتب لهم: "تعالوا نشتري الجنة بسياط العذاب ورصاص أعداء الله. تعالوا نرق الدم ليكون أوسمة تحلى بها صدور الشهداء". ثم منشور آخر عام 1954 قال فيه: "أمامنا أعداء وليس عدوًا واحدًا، ألا وهم الكفر والفجرة حكام هذا الوطن. هؤلاء الذين ليس في قلوبهم مسنة من الرحمة أو ذرة من شفقة. وهذا الشعب البائس الذي يحكمه الطغاة لا يصح أن يعيش في هذه الذلة والمسكنة.. ربما يحتاج الأمر إلى استعمال القوة في مواجهتهم، فعلى كل أخ يعتز بدعوته أن يستعد بكل ما عنده من مال وسلاح إلى أن يحين اليوم الموعود”.
وفي الوقت الذي كان جمال عبد الناصر يخوض فيه معركة التحرر الكاملة، ورفض وصاية الإخوان وأفكارهم، أصدروا أمرًا باغتياله عام 1954، وأطلقوا عليه 8 رصاصات في حادث المنشية الشهير.
كان لدى الإخوان خطة واضحة وقتها، تبدأ باغتيال جمال عبد الناصر والاستيلاء على السلطة، ثم اعتقال أعضاء مجلس قيادة الثورة أو قتلهم، والسيطرة الكاملة على الجيش المصري من خلال عناصر سرية للجماعة بداخله، والاستيلاء على المباني الحكومية وقطع الطرق الرئيسية وامتلاك أقسام الشرطة، وخروج أعضاء الجماعة المسلحين في استعراض بالشوارع حتى يقتحموا قصر الرئاسة، وإعلان قيام الدولة الإسلامية.
كل ما سبق باعترافات عشرات الإخوان، لكن أنت لا تحتاج إلى اعترافات تاريخية، يمكنك فقط أن تسترجع وتتأمل ما حدث منذ 2011 حتى 2014 لتعرف حقيقة الخطة الثابتة لدى الجماعة باختلاف اسم الحاكم، ويمكن أيضًا التأمل في الدعوات التي يطلقونها بين الحين والآخر وتضمن غالبية تلك البنود في الخطة القديمة التي فشلت ويحاولون طيلة الوقت إعادة تنفيذها.
وثائق سرية بريطانية وتورط الإخوان
كان عبد الناصر قوميًا يؤمن بحتمية دعم حركات التحرر الوطنية في المحيط الإقليمي لمصر عربيا وإفريقيا، وهذا الإيمان دفعه إلى إدخال مصر طرفًا في عمليات التحرر تلك، وبالتأكيد كان يُدرك أنه يعلن الحرب على قوى عالمية كبرى، لن تتهاون في شن الحروب عليه، سواء بقواتها أو بوكلائها في المنطقة.
وثائق سرية بريطانية كشف النقاب عنها قبل سنوات، أوضحت كيف استغلت بريطانيا شعبية وتأثير الإخوان في شن حرب نفسية ودعائية سرية ضد أعدائها وعلى رأسهم جمال عبد الناصر.
تحت عنوان "بالغ السرية"، جاءت الوثائق الأمنية والدبلوماسية البريطانية، لتكشف استغلال الإخوان في القضاء على عبد الناصر.
تقول تلك الوثائق إن بريطانيا استغلت الإخوان للترويج لمنشورات تهاجم سلوك الجيش المصري في اليمن، في ظل دعم عبد الناصر لحركة التحرر اليمنية ضد القوى الاستعمارية وأعوانها، ما يعني محاولة لتشويه الجيش المصري لصالح هؤلاء باستخدام الإخوان.
الوثائق أيضًا أشارت إلى أن دوجلاس هوم، رئيس الوزراء البريطاني، أمر وزير خارجيته راب باتلر، في العام 1964، بالانتقام من جمال عبد الناصر، بعد أزمة قناة السويس وتهديد مصالح بريطانيا في اليمن والمنطقة العربية.
بحسب الوثائق، أمر رئيس وزراء بريطانيا بـ "جعل الحياة جحيمًا بالنسبة لجمال عبد الناصر باستخدام المال والسلاح". وتشكل في سبيل ذلك لجنة سرية من مختلف الأجهزة الأمنية والوزارات لتدمير عبد الناصر.
كان جمال عبد الناصر يرى أن إقامة نظام جمهوري في اليمن وتحرره من الاستعمار البريطاني مسألة استراتيجية لمصر، لأن البحر الأحمر رابط مهم بين البلدين، وتأمينه يجعل قناة السويس تعمل بانتظام ولا يمكن ضرب مصر من خلالها، وهو الأمر الذي رأيناه بأعيننا في الفترة الأخيرة بعد سيطرة الحوثيين على اليمن وتنفيذ ضربات بالبحر الأحمر كبدت قناة السويس خسائر بمليارات الدولارات.
وكي لا يحقق عبد الناصر مصالح مصر، ويضر مصالح بريطانيا، نشر الإنجليز منشورات تحمل اسم جماعة الإخوان، لترديد أكاذيب مثل استخدام الجيش المصري غازات سامة لضرب المسلمين اليمنيين، واستخدام أسلحة صنعها الشيوعيين الملحدين، وأضف على ذلك تأليب المصريين ضد عبد الناصر بدعوى أنه يرسل المصريين للموت في اليمن.
واستخدمت المنشورات التي حملت اسم الإخوان وقتها، مزاعم أن الحرب في اليمن هي لقتل المسلمين، وأن القنابل التي ألقاها الجيش المصري هناك كافية لتدمير إسرائيل، بل ووصف المصريين بالمستعمرين النازيين والكفرة.
ولم يتبرأ الإخوان من تلك المنشورات ولم ينفوا أفكارها ولم يظهروا سلوك مغاير، بل أن كل ما جاء في تلك المنشورات ردده الإخوان عبر عقود من الزمن. وبموت عبد الناصر توارث أسلافه نفس الهجوم في مواضع مختلفة، فتجدهم الآن يتهمون الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بقتل أهل غزة وحصارهم، ثم يتهموا مصر بقبول تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، والتوقيع على صفقة القرن وقبض الثمن، هم ليسوا إلا أبواق لخطط الاستعمار.
تاريخ طويل من التضليل والتشويه
العلاقة بين التضليل والإخوان وثيقة، هي أشبه بزواج كاثوليكي لا طلاق فيه حتى إن كانت علة الزنا حاضرة، فهم من نشروا قصة الوثيقة السرية التي وضعها عبد الناصر وكان عنوانها "استئصال الإخوان"، وكان الهدف منها القضاء على المشروع الإسلامي في مصر لصالح الشيوعية والكفار.
لكن يوسف ندا، القيادي البارز في الجماعة، اعترف بعد عقود من الزمن بتزوير تلك الوثيقة المزعومة لأن "الحرب خدعة"، وكان لزامًا عليهم تشويه جمال عبد الناصر تاريخيًا ومحاولة جعله شيطانًا رجيمًا.
أضف على ذلك المذكرات المزعومة لزينب الغزالي والتي تحوي آلاف الكذبات عن تعذيبها في السجن، إلا أن المفاجأة كانت في أن زينب لم تكتب مذكراتها، بل كُتبت نيابة عنها من أجل "الحرب النفسية والدعائية" ضد جمال عبد الناصر.
إن الإخوان لم يتغيروا منذ يومهم الأول، فهم لا ينظرون لمصر كوطن، ولا لشعبها كأمة، بل تبقى أرض جاهلية بالنسبة لهم، إن تمكنوا منها حكموها، وإن لم يتمكنوا تحالفوا لإسقاطها وتدميرها، متحالفين في ذلك مع كل القوى الاستعمارية الأجنبية.
أحدث الفيديوهات
أخبار ذات صلة
"أيوه أنا اتطلقت" ومطرب ضده حكم.. "الكُتّاب الجدد" يجتاحون معرض الكتاب
29 يناير 2025 01:11 م
بعد فيديو محمد رمضان.. سألنا ChatGPT "مين هو نمبر وان"؟
28 يناير 2025 10:34 م
بلومبرج: دعوة ترامب لتهجير سكان غزة غير مقبولة
28 يناير 2025 08:42 م
بعد "شلوت" ترامب.. الدنمارك تقرر تسليح جرينلاند لـ"تأكيد السيادة"
28 يناير 2025 01:33 م
102 طن ذهب و300 مليار دولار.. اعرف حجم ثروة حميدتي التي صادرها السودان
28 يناير 2025 11:48 ص
تاريخه بحجم أندية.. علي معلول يرحل عن الأهلي بعد حصد 24 بطولة
27 يناير 2025 09:15 م
إعلامي كولومبي: وقوف بيترو بوجه ترامب خطوة نحو السيادة الوطنية (خاص)
28 يناير 2025 12:07 ص
أكثر الكلمات انتشاراً