الجمعة، 20 سبتمبر 2024

09:19 ص

سُعار الفورمات!

لا شك أن عملية صناعة الدراما أمر يظهر سهلاً، ولكن حقيقته غاية في الصعوبة، فالدراما تختلف كثيراً عن السينما، فهي التي تدخل البيوت وتتوغل فيها وتجذبك وسط أحداثها بالـ30 والـ60 والـ90 حلقة، فتلهث خلفها في حياة موازية مع أبطالها وهو ما يتطلّب حجر الأساس، من نص درامي مكتوب بحرفية يُبنى عليه المبنى الدرامي ببصمة وهوية مجتمعه، بقيادة مخرج واعٍ يستطيع توصيل الرسالة بالإبهار المطلوب الذي يخدمها ويسوقها.

تاريخ الأعمال الدرامية الذي يعيش حتى الآن، كتبه مبدعون من المؤلفين، وصاغ سيناريوهاته مبدعون من كتاب السيناريو، وأخرجه من أصبحوا عمالقة الإخراج، فهذه الأعمال صنعت شعبيتها بأفكار كتابها وحققت نجاحات تاريخية، وهو النجاح الناتج من صناعة متعارف عليها منذ بدايتها، وهو ما ينعش السوق الدرامي ويصنع أجيالا متعاقبة من المؤلفين والمخرجين ببصمة الهوية.

وسط تسارع التطور في كل المجالات، قرر المنتجون منذ سنوات اللجوء لما يسمى بـ"التمصير"، وهو اقتناص أحد الأعمال الأجنبية الناجحة وإعادة تقديمها بشكل مصري بعد التعديل والتحوير، ففريق منهم يعترف بذلك والآخر - وهو الأكثر- يظلّ يقسم على عدم وجود تشابه بين العملين، وهو ما أسس لظاهرة "النحت الفني" في تزاوج غير شرعي ينتج مولودا فنيا يصبح بلا هوية، لتبقى الأعمال مشوهة وممسوخة حتى وإن حققت النجاح فيظل منسوباً للعمل الأصلي.

في السنوات الأخيرة ومع التطوير ودخول مستثمرين في الصناعة لتمويلها، قرر المنتجون أن يكونوا أكثر شرعية بشراء أعمال درامية بغرض إعادة تقديمها بالموافقة على كل شروط العملية من الالتزام بالنص الأصلي والأحداث الأصلية بلا تغيير أو تعديل، إلا في أضيق الحدود وبموافقة الشركة المالكة للعمل.

وأضيف إلى ذلك مؤخراً فريق العمل الأصلي ليتم ضرب الصناعة الدرامية في مقتل ويتم الاستغناء عن ماكيناتها وتروسها بحجة الحفاظ على ما يسمى بـ"الفورمات" ليتحوّل الردّ الأول من المنتج على المؤلف “شوفلنا حاجة فورمات”، وهي الجملة التي أصبحت نفسها "فورمات" في معظم شركات الإنتاج.

أصبحت القناة العربية الشهيرة تقود هذه العملية بمضخات التمويل التي لا تنضب بعد تحقيق نجاح كبير في أولى تجاربها، فقررت ألا تشتري من المنتجين وتنقل عن أعمال جاهزة، فذهبت إلى التركيّ وقدمت أول تجربة "كريستال"، التي حققت نجاحاً ساحقاً فوق المتوقع لتكرر التجربة مرة أخرى في "الخائن" عن عمل تركي عن عمل أجنبي لنتطور إلى "عن- عن"، وكأن الصناعة أصابها عقم فلجأت القناة إلى سياسة التبني لأعمال غيرها.

ماذا لو توجهت ملايين الدولارات التي يتم دفعها في "الفورمات" وفريق عمله لأعمال عربية خالصة؟

الغريب أن يتفق على هذا السؤال ويطرحه “طليق” بطلة التجربة الثانية مسلسل "الخائن"، فلا يجد حرجاً بصفته كمخرج من رفض هذا القالب الدرامي الجديد، فالحقيقة ما يتم بحثاً عن صورة جديدة وشكلاً جديداً للدراما يجذب الجمهور، ما هو إلا أحد أنواع الإفلاس الفكري والإبداعي مع سيطرة سطوة المال التي اتجهت لشراء المنتج الجاهز على حساب ما يتم تصنيعه مع خسارة هائلة للعمالة التي يأتي على حسابها فريق العمل الأصلي للمسلسل، وهو ما يضرب الصناعة في أهم أعمدتها.

المؤسف أن هذا التوجه يُلزم العمل الجديد عن "الفورمات" بالتصوير في نفس أماكن تصوير العمل الأصلي بما يعني أن جميع الأعمال الجديدة من هذه النوعية سيتم تصويرها في تركيا، وهو ما يحرم الدول العربية الأولى بصناعة درامتها من استعراض صورتها بهويتها الخاصة على الشاشة واستبدالها بالأجواء التركية المنتحلة للصفة اللبنانية والسورية!

دراما "الفورمات" أصيبت بالـ "سُعار" بالإعلان عن تحضير عدد جديد منها، لتهجم على صناعة الدراما العربية وتعقرها في أماكن متعددة، في خطة ممنهجة لطمس المعالم العربية واستقطاب الانتماء إلى صورة أخرى بمعالم أخرى في جولة جديدة من جولات معركة الوعي تفتقد لمبدأ تكافؤ الفرص!

أين ستذهب وإلى متى ستستمر؟! هذا ما سنراه ونشاهده.. بعد الفاصل!

search