الجمعة، 14 مارس 2025

03:01 م

"وقف الأب".. وقصة المرض العضال

حين كنا صغاراً وأبسط حالاً، نتمنى أن نصبح أثرياء ونعد الله سراً بأننا لن نتوقف عن فعل الخير، إذا رزقنا المال الوفير، لكن من منا يتذكر هذا العهد الآن بعدما تحققت الأمنية؟!

الكرم، يا لها من صفة نبيلة، لكنها شحيحة في هذا الزمان، فكثيرون يضنون على غيرهم حتى بالمشاعر، إذ أن البخيل من وجهة نظري، بخيل في كل شيء، سواء إنساني أو مادي.

بالتزامن مع شهر رمضان، أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم إمارة دبي حملة إنسانية رائعة، باسم "وقف الأب" بهدف تكريم الآباء في دولة الإمارات من خلال إنشاء صندوق وقفي مستدام، يخصص ريعه لتوفير العلاج والرعاية الصحية للفقراء والمحتاجين وغير القادرين.

وفور إطلاق الحملة، شهدت الإمارات تنافساً مبهجاً حول التبرع للوقف، وذهل الجميع بتبرع قدره 3 مليارات درهم "حوالي 40 مليار جنيهاً"، من رئيس مجلس إدارة شركة عزيزي للتطوير العقاري مرويس عزيزي، وهي المساهمة الفردية الأكبر تاريخياً بدولة الإمارات من القطاع الخاص.

أعيش في الإمارات منذ سنوات طويلة، وأدرك كيف تجري الأمور هنا، ولو تبرع عزيزي بمائة مليون أو 500 مليون أو حتى مليار درهم، كان سيتلقى الثناء التام، ويخلد اسمه بحروف مضيئة في سجل الأعمال الإنسانية، لأن لا أحد يجبر أحداً هنا أو يدفعه إلى التبرع، وهناك رجال أعمال أكثر ثراء من عزيزي في الإمارات، ولم يبادروا إلى ذلك، وإن كانت لهم مساهمات خيرية عظيمة سواء من خلال مؤسسات أنشأوها خصيصاً لذلك، أو عبر المبادرات التي تطلقها الحكومة..

القصد أن أيقونة العقارات مرويس عزيزي بادر بذلك لدوافع ذاتية، ورغبة صادقة لفعل الخير مستظلاً بمؤسسة لها أياد بيضاء على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي هي مؤسسة "محمد بن راشد آل مكتوم العالمية" وخصص مساهمته لبناء حي طبي إنساني يتضمن مستشفى ومركز أبحاث، ومركز تدريب طبي، ومبان وقفية أخرى، في حي كامل مخصص لهذا الغرض العظيم بإمارة دبي.

رجل الأعمال مرويس عزيزي كشف عقب التبرع أن إحدى بناته عانت مرضاً مستعصياً، ولم يكتب لها الشفاء، ويريد من خلال هذا المشروع تخفيف ألم المرض عن مئات الآلاف من الأشخاص غير القادرين على تحمل تكاليف العلاج.

هذه المبادرة ليست الأولى من نوعها لهذا الرجل، فقد ساهم بمبلغ 600 مليون درهم، لإنشاء مجمع تعليمي وقفي في دبي، ضمن حملة "وقف الأم" التي أطلقها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في رمضان الماضي، لتكريم الأمهات بإنشاء صندوق وقفي بقيمة مليار درهم لدعم تعليم ملايين الأفراد حول العالم بشكل مستدام.

ويُعد إنشاء المجمع التعليمي الوقفي في دبي أحد أكبر الإسهامات الخيرية في دولة الإمارات، حيث ستذهب عائداته بالكامل من أجل تمكين الطلبة من استكمال تعليمهم وتأهيلهم، والحصول على المهارات اللازمة لمواكبة المستجدات في سوق العمل.

وبديهياً، وكما توقعتهم تماماً، اندفع كثيرون إلى التبرع لوقفي الأم والأب من رجال الأعمال والمتيسرين وأفراد المجتمع العاديين، متحمسين لهذا النوع من المبادرات التي تترك أثراً إنسانياً طويلاً يمتد بعد وفاة فاعل الخير.

وأتمنى أن ننقل هذه التجارب الإنسانية إلى مصر، ويتبناها الرئيس عبد الفتاح السيسي بنفسه، فبالإضافة إلى الصناديق السيادية والمشروعات الرائدة مثل حياة كريمة، التي حققت نتائج رائعة، أقترح أن نطلق حملات كبرى بالتزامن مع المناسبات الدينية مثل شهر رمضان المبارك، يخصص ريعها لقطاعات ذات أهمية كبيرة للمجتمع مثل التعليم أو الصحة، ويدعى رواد الأعمال البارزين إلى الحضور والمساهمة، والباب يترك مفتوحاً للراغبين في التبرع مادياً، أو القادرين على المساهمة بما يمتلكون من إمكانيات ذات صلة بالحملة، فإذا كانت متعلقة ببناء مدارس أو مستشفيات، يساهم رواد العقارات في أعمال البناء، وكل حسب استطاعته وكرمه..

أدرك جيداً أن هناك رجال أعمال مصريين لديهم نشاط خيري واسع، ومنهم الذي أنشا مؤسسات للأعمال الإنسانية، لكن من الضروري وجود مظلة توجه المساهمات إلى الأولويات التي تحتاجها الدولة، خصوصاً في القطاعات الرئيسة التي تمس المستقبل مثل التعليم..

مصر تحتاج إلى تضافر جهودنا جميعاً، ومستقبل أبنائنا يعتمد على ما نقدمه الآن، لكن أؤكد ثانية، من الضروري وجود بوصلة واضحة لهذه المساهمات، على غرار ما فعله رائد النهضة ومؤسس دولة سنغافورة، لي كوان يو، وهذه قصة ملهمة نحكيها في مقال آخر..

search