الثلاثاء، 25 فبراير 2025

02:49 ص

المذنبون والضحايا في جريمة FBC

هناك حكمة إنجليزية تقول "Too good to be true" ومفادها "أنه رائع لدرجة غير واقعية".

لو طبقنا هذه الحكمة على كثير من الأشخاص والمواقف التي تحدث في حياتنا، سنتفادى "خوازيق" وفخاخ بعضها مدمر بكل أسف، من عينة القصة الحزينة التي نتناولها في هذا المقال!

مليون مصري حسب التقديرات الأولية سقطوا ضحايا لعملية احتيال مركزة استغرقت قرابة شهر عبر منصة تعرف باسم "FBC" أو علامة المستقبل، وخسروا قرابة 6 مليارات جنيه.

لست من هواة لوم الضحية، فيكفيه ما يعانيه من خسارة وأذى نفسي واجتماعي، كما أن من العبث الظن بأن "القانون لا يحمي المغفلين" فهذا اعتقاد خاطئ ومنقوص، لأن القانون يحمي الجميع سواء كانوا عاقلين مثقفين أو فاقدي الأهلية!

لكن، وهنا استدراك مهم، متى نتعلم من زلاتنا وأخطاء غيرنا، فالمحتالون في هذا الواقعة استخدموا نمطاً احتياليًا عفا عليه الزمن، وورد في الصفحة الأولى بكتاب النصب، وهو الاحتيال الهرمي، بتجنيد شخص، واستخدامه في تجنيد عدة أشخاص، يجندون غيرهم بدورهم حتى تتكون شبكة هرمية تدر أموالاً هائلة لرأس الهرم، الذي يغلق الشبكة بعد ان يستولي على آخر مليم يمكن أن يحصل عليه، لينسج شبكة أخرى باسم مختلف!

لا شك أن معظمكم ملم بتفاصيل عملية الاحتيال الكبرى التي صدمت عشرات الآلاف من ضحاياها، لدرجة جنوح عدد منهم إلى إنهاء حياتهم، ووفاة آخرين متأثرين بضياع مدخرات العمر، وانهيار أسر بالطلاق أو القطيعة بعد اكتشاف أحد الزوجين ان الآخر استثمر من وراء ظهره في تلك المنصة الوهمية!

لقد سمعت كثيرًا من ضحايا هؤلاء المحتالين عبر "تليجراف مصر" وصدمت من حالة الاندفاع التي أصابت الناس ودفعتهم إلى إهدار مدخراتهم بسذاجة غير مبررة، إذ أن المنطق قد يدعو إلى المغامرة بالفائض لدينا، وليس الأصول!

أحدهم باع الجاموسة التي يملكها وضخها مع كل مدخراته في تلك المنصة، وأخرى باعت ذهبها، وثالث أودع تحويشة سنوات الغربة في الخليج، وآلاف مثلهم سقطوا وجروا غيرهم حتى صاروا جميعاً في الهم سواء!

يفلح النصاب مع الطماع، هذا واقع لا يمكن إنكاره، فلا يمكن أن تنجح حيلته مع شخص يدرك أن الحدأة لا تلقي بالكتاكيت، وأن الثراء السريع لا يتحقق إلا في قصص الخيال السطحية، أو لو كنت مغني مهرجانات!

لقد لعب مطورو منصة "FBC" على وتر الطمع، وتعاملوا بذكاء مع نفسية واحتياجات الضحايا، فعرضوا تجارب لأشخاص تبدلت أحوالهم بعد اشتراكهم فيها، وتعمدوا إثراء المجموعة الأولى التي انضمت إليهم، فصار لكل منهم قصة يرويها ويقنع بها غيره، وهكذا انتشر الحلم الوردي بين الناس، ليسقط مليون شخص خلال فترة قصيرة ومرعبة!

أذكر جيداً قبل قرابة عشرين عاماً أني شهدت تجربة مماثلة، لكن ربما كان مبرري آنذاك أن أسلوب الاحتيال الهرمي كان لا يزال جديدًا، كما أنني بكل أمانة لم أسقط في الفخ، وإن كنت طاوعت أحد أقاربي حتى يستفيد على حد اعتقاده وقتها!

اللافت في تجربتي أن المجموعة الرئيسة آنذاك، كانوا شبابًا من الطبقة العليا والوسطى العليا، متعلمين جيدًا، بالغي الأناقة والأبهة، ما كان كفيلًا باجتذاب المئات بكل سهولة، لأنهم كانوا قدوة رائعة لشباب حالم بفرص أفضل!

ما أشبه الليلة بالبارحة، فنحن شعب يتأثر كثيرًا بالمظاهر، وهذا هو الوتر الذي يلعب عليه المحتالون والمستريحون حسبما نحب أن نطلق عليهم في بلادنا، فأصحاب هذه المنصة تعمدوا إقامة حفلات كبرى، يدعون المئات إليها، ويتعمدون توزيع الهدايا وتقديم نماذج نجاح وهمية، ثم يغرون الزبائن الجدد بأرباح بسيطة إلى أن يثقوا فيهم ويجندوا غيرهم ثم يودعوا كل مدخراتهم، لتأتيهم الصدمة في النهاية بهذا الشكل الدرامي الحزين!

أنا حزين على الضحايا، وأتمنى أن يعوضهم الله خيرًا، لكن من باب العلم بالشيء، المجني عليهم في هذا النوع من الاحتيال الهرمي قد يكونون جناة بدورهم لأنهم يستدرجون غيرهم إلى الفخ ذاته، ومن ثم فهناك صعوبة بالغة في الوصول إلى الجناة الحقيقيين، فكلهم مذنبون لا نستثني منهم أحدًا!

بالله عليكم في المرات القادمة، صدقوا هذا الصوت الضعيف بداخلكم الذي يحذركم قبل الوقوع في الفخ ويقول لكم “إنه رائع لدرجة غير واقعية”!

search