السبت، 05 أكتوبر 2024

04:23 م

"أيوب المصري" الذي مات 1000 مرة

أهلا بكم.. أنا فاطمة ابنة الدكتور محمد عبد الحليم.. “أيوب المصري” كما لقبه الإعلام طوال 18 عاما مضت.. أنا فاطمة ابنة السنوات الثمان حين غرقت هي وأمها وأشقاؤها، آلاء ونورهان وعبدالرحمن في العبارة السلام 98 عام 2006.. وتحديداً في الثالث من فبراير.. منذ 18 عامًا.. ولم تظهر جثاميننا حتى الآن.

أبي ظل حتى رحيله في 2021 يقاتل من أجلنا.. أنا التي كتب عني والدي يوماً: «أعيدوا إليّ فاطمة، خذوا كل ما عندي وأعيدوا إليّ فاطمة، أعيدوا إليّ بسمتها، ضحكتها، ودمعتها، إذا تبسمت فهي الشمسُ إذا أشرقت، أعلم أنها في الجنان عند الرحمن، وأنها ربما تأخذ بيدي إلى هذا المكان».

وأنا اليوم أحوّل سطور أبي إلى حقيقة.. أبي المقاتل، الصبور، والحزين، كان يعمل في المملكة العربية السعودية، وودعنا عندما كنا نزوره في السعودية عام 2006، وركبنا العبارة السلام 98 عائدين إلى مصر، ولم نعد نحن وقرابة 1030 مصريا.. غرقنا بعد ساعات قليلة من تحركنا، وما زاد الأمر صعوبة، أن أبي لم يجد جثامين أحد منا، حتى أنه كان يذهب كل عام في موعد غرقنا نفسه، يزور مقابر الصدقة في الغردقة التي دفنت فيها جثامين ضحايا العبارة ولم يتعرف عليهم أحد.

الدكتور محمد عبد الحليم.. وفاطمة

غابت “وردات فاطمة” 

عقب زيارته السنوية، كان أبي يذهب إلى البحر الذي ابتلعنا، وكان يحضر معه خمس وردات حمراء، وردة لأمي، وأخرى لي.. وثالثة لنورهان، ورابعة لعبد الرحمن والأخيرة لحبيبتي آلاء، كان يُلقيها ودموعه تغرق وجهه ونظارته الطبية، ظل هكذا من عام 2007 حتى 2020، كان يحضر ومعه عمي هشام، لكنه في عام 2021 لم يأتِ.. انتظرت «ورداته» ولم يُلقها، وبكيت، وأخفيت دموعي عن والدتي، وأشقائي الثلاثة.

كنت أنا التي تجمع «الوردات» وأقدمها لهم، وأقول: «أبي يُقرئكم السلام»، وتابعت وعلمت أن المرض أقعده، وأنه يتحرك بمساعدة عمي، يضعه على كرسي متحرك.

تعلم يا أبي.. وأنا أُصارع الموت بين الأمواج، اقتربت من أمي، وكانت تحاول أن تحتضننا جميعاً، وتحمّلنا أنا وعبدالرحمن، كنا صغيرين، وحاولت أن تحتضن آلاء وفاطمة الشابتين، لكن خارت قواها وقوانا.. لا أذكر يا حبيبي من مات في البداية، من استسلم مبكراً، كان الموج عالياً حينها، وكانت الأصوات كثيرة، وكنت أميز صوت أمي وهي تنادي علينا، كنت أسمع صوت عبدالرحمن هو ينادي عليك، كنا نعلم أنك كنت بعيداً حينها، لكن اسمك كان كفيلا بجلب الطمأنينة.. كان وجودك بجوارنا سيكون سبباً أن يبقى واحد منا على قيد الحياة يا حبيبي، لكن لم تكن بيننا.

تعلم.. كنت أرى وجوها كثيرة عند الغرق، وأسمع عبارات لا إله إلا الله.. محمد رسول الله.. وتعلمت منك يا حبيبي أن أقولها، كررتها مرات حتى امتلأ فمي بالمياه، وتجمدت أطرافي يا حبيبي، وحاولت أن أنادي على أمي ولم أستطع، حاولت أن ألقي نظرة على آلاء وفاطمة لكنني فشلت، حاولت أن ألمس عبدالرحمن ولكن قواي تبددت، ونظرت إلى السماء.. شاهدتك.. وشاهدت ابتسامات عريضة في السماء أيضاً، وكأنها تطمئنني وترحب بي، حتى جئت.

أمتعة ضحايا العبارة السلام

وهنا وجدت أمي.. هرولت.. وجدتها تحتضن آلاء وفاطمة وعبدالرحمن، ارتميت في أحضانها وجلست كعادتي على قدميها، وسألت عنك وقالت لي إنك قادم، لكنها يا حبيبي لم تحدد لنا موعداً، والحمد لله أنك جئت، هنا ربي ينتظرك.. أنت في الجنة معنا.. أخذنا بيدك يا حبيبي إلى هنا.. إلى الجنة.. ربنا جميل.. وبيحبنا ويحبك.. لقد تحدثنا عنك كثيراً.. أهلا بك يا حبيبي في الجنة، أهلا بك بعيداً عن أرض أهلها ظالمون، أهلا بك بعيداً عن أرضٍ ليس بها عدل كثير.. هنا العدل، ربما حاولت يا حبيبي أن تحصل على حقنا وتسترده، ولكن هنا سيسترده رب العالمين.. اطمئن.. اطمئن يا حبيبي.. تعال.. تعال.. خذ مكانك يا حبيبي.

أبي على مدار 16 عاماً لم ينس «حبّات قلبه»، كان ابن الـ54 عاما حين وقعت الكارثة، وظل يقاتل ويحارب أباطرة السفينة، ويتابع الجلسات التي كانت تعقد في الغردقة، وكان يقطع قرابة 800 كيلومتر في ذهابه ومثلها في عودته إلى بلدته التابعة لمدينة طنطا، كان صابراً ولا يزال، كان حزيناً وزال حزنه الآن، كان قليل الكلام، لكنه انطلق الآن ليتحدث معنا، كان مقاتلاً للبحث عن حقنا، يحتفظ بصورنا نحن الخمسة.. «يفردها» أمامه.. ويقول لمن بجواره: «هذه آلاء، كانت تكتب إليّ رسائل بالإنجليزية.. انظر هذه فاطمة هي الأغلى.. هذا عبدالرحمن.. وهذه نورهان.. كانوا في زيارة إلىّ بالسعودية حيث كنت أعمل، وودعتهم في الساعات الأخيرة من مساء الخميس 2 فبراير».

وفي الساعات الأولى من صباح الجمعة كان الخبر، والاختبار، كان الموت يطل برأسه قوياً، وبحثت عنهم بين الناجين، وبين المصابين والجثامين ولم أجدهم، راحوا مع قليلين وابتلعتهم مياه البحر، واستقبلهم ليكون «بديلا» لقبرهم.. أُصبّر نفسي وأزور مقابر الصدقة في محافظة البحر الأحمر، هناك وضعوا بعض الجثامين التي لم تفلح معها تحاليل الـ«دي إن إيه»، أزورها وألقي السلام، وأقرأ الفاتحة، أتشكك وأسال نفسى: «هل هم هنا.. أم ممن ابتلعهم البحر ورفض أن يخرجهم.. وأذهب إلى البحر لألقي 5 وردات.. لكل واحد منهم وردة».

عائلة الدكتور محمد عبد الحليم

لا رسائل بعد اليوم

نسيت أقول لكم أن أختي آلاء كانت تكتب رسائل لأبي، ومنها هذه الرسالة: «إليك يا بابا كل الحب والاحترام، وشكراً على كل ما فعلته من أجلنا.. أدعو الله العظيم رب العرش الكريم أن يحفظك من کل کرب عظيم، وأن يجمعك برسوله في جنة الفردوس جزاك الله خيرا.. ابنتك آلاء».. هذه واحدة من رسائل احتفظ بها أبي.. تخيلوا كتبتها آلاء وكانت حينها طفلة، وها هي «الرسالة» والرسائل جميعها تعيش في أمان بين أوراق أبي الطیب ومستنداته في غرفته المتواضعة بمنزل العائلة.

سأحكي لكم عن أبي.. نعم أنا فخورة به.. هل مللتم؟.. أرجوكم لا تملوا.. لم أتحدث منذ رحيلي في 3 فبراير 2006.. دعوني أقول لكم قصته: «ولد سنة 1952، كان الابن الأكبر.. ولد في ظروف معيشية شديدة القسوة.. أب يعمل عامل بسيط في شركة غزل المحلة براتب بالكاد يكفي متطلبات الحياة.. وأم طيبة ربة منزل احتوت الأسرة بكل ما أوتيت من قوة.. محمد الأخ الأكبر على 4 ذكور وابنتين.. نشأته في صغره كانت دينية.. تربى مثل آلاف من أبناء الريف في دلتا مصر وصعيدها في كتّاب القرية وحفظ بعض أجزاء القرآن في صغره، دخل المدرسة الابتدائية.. منذ الصف الأول كان متميزا ومتفوقا، طيب الخلق في الصف السادس الابتدائي والثالث الإعدادي».

حصل ع المركز الأول باقتدار، وحظي باحترام أقرانه سواء بالدراسة أو بالبيئة المحيطة به في قريتنا الجميلة، والتحق بالثانوية العامة عام 1967، وحصل على 88% آنذاك، كانت هذه الدرجات كبيرة جدا، والتحق بكلية الطب جامعة طنطا، ذلك كله كان في ظروفٍ معيشية مجحفة، لا كهرباء ولا مياه، ولا أيٍّ من مظاهر الترف، كان على قدر المسؤولية، يذهب للمدرسة الثانوية الموجودة في المركز سيراً على الأقدام.. ذهاباً وإياباً حتى حصل على بكالوريوس الطب والجراحة عام 1977، وبعدها تم تكليفه للعمل كطبيب في إحدى محافظات الصعيد وهي قنا، وكان يرسل أكثر من ثلثي راتبه إلى أبيه وإخوته الأربعة.

الدكتور محمد عبدالحليم وأحد أطفاله

نعم هذا أبي.. ومن حقي أن أفتخر به، وجاء عام 1983 فسافر للعمل بالمملكة السعودية، وكانت أولى خطوات انفراجة الأزمة المالية للأسرة.. كان تعاقده أول عمله 7000 ريال سعودي، وكان مبلغاً ضخماً للغاية آنذاك ولم يتوان عن إكمال دوره العظيم تجاه أسرته، حيث استمر عطاؤه وكرّمه بأن يرسل لأبويه على الفور للحج عام 1984.

في عام 88 التقى «حبيبتي أنا» وحبيبته و«ست الكل».. نعم التقى من ارتضاها زوجة له.. تعرف عليها في السعودية.. يا الله.. السعودية كان أول لقاء بينهما، في هذا العام، وكان اللقاء الأخير أيضا في السعودية عام 2006 قبل ساعات من غرقها معنا.

زوجة الدكتور محمد عبد الحليم وابنتيه

عودة إلى أمي.. كانت من أسرة متوسطة الحال وكانت، رحمها الله، مهندسة.. لكنها لم تكن تعمل، تمت الخطوبة والزواج في العام نفسه، وأبي حتى بعد زواجه لم يترك أهله... استمر بالجود والكرم أكثر وأكثر.. تكفّل بتعليم أشقائه حتى تخرجوا من الجامعة، واستقبل أول أولاده عام 89، آلاء حبيبتي، وبعدها استقبل نورهان عام 90، وعبدالرحمن عام 1994، وأنا جئت عام 96، واستمرت حياته المستقرة هكذا إلى أن جاء عام الحزن 2006، حيث ودّعنا جميعا.

أيوب المصري رفض الأموال

قاتل في الدفاع عنا.. ولم يتوان رغم التهديدات، ولم يترك أبويه ولا إخوته بعد رحيلنا ورفض «العوض».. رفض الأموال لأنَّها لن تعوض غيابنا.. استقر في بلدتنا البسيطة في مركز السنطة بطنطا، مكث مع والديه وكرّس وقته لخدمتهما إلى أن تُوفيت والدته 2015، ووالده في 2018.. كانا قد جاوزا الثمانين.. واسودَّت الحياة في وجهه،  حيث فقد من كانا يعوضانه فقدي أنا وأمي وأشقائي.

قد يكون «تعويضا مؤقتا»، أو تعويضا يحفظ له بعض الأمل في الحياة.. اشتد مرضه، وأصيب حبيبي بجلطات في المخ والقلب إلى أن توفاه الله عشية ليلة باردة في ديسمبر، ليلة كتلك الليلة الباردة التي رحلنا فيها غرقاً في مياه البحر الأحمر.. كان أبي شديد الحب لجيرانه وأقاربه.. كان محبوبا من أهل القرية والقرى المجاورة.. كان سبَّاقا للخير في أي مجال.. كفل أسرا بأكملها، ساعد في زواج يتيمات.. كان سبَّاقا للخير.. كان يوم موته حزناً فاق الوصف في قريتنا، حزن عليه القاصي والداني.

نظام مبارك

انتهت أسطورة قلما وجدت.. كان أهل قريته في حزنٍ، وكنت أنا سعيدة لأنه سيأتي إلينا بعد غياب استمر 16 عاما.. كانوا يجهزونه للقدوم إلى ربه ودموعهم تسبقهم.. وأنا هنا أهلل.. وأقول: «أخيراً سيأتي أبي».

سادتي.. حكيت لكم عن حبيبي.. هل أحكي لكم عن مأساة الدكتور محمد عبدالحليم؟، هل أحكي لكم عن صاحب العبارة الهارب؟، هرّبه نظام مبارك في 2006 وقبل أن يصدر قرار بمنعه من السفر.. قالوا له: «سافر يا ممدوح.. وبعدها صدر قرار المنع».. نصبوا جلسة في مجلس شورى «صفوت الشريف» وقتها لرفع الحصانة عن ممدوح إسماعيل، وكان الرجل قد غادر إلى لندن، حيث لا قانون مصري يطبق.. ولا إنتربول يعيد متهما.. هرب الرجل وكان معه ابنه.

هل أحكي عن 23 جلسة محاكمة؟، لن أحكي.. هل أحكي لكم عن دموع أبي في الجلسات وحين النطق بالحكم؟، لن أفعل.. هل أروي لكم صرخات أسر الضحايا حين صدرت أحكام البراءة؟، لا.. لن أتحدث.

هذه أنا.. فاطمة محمد عبدالحليم

الآن لا أريد شيئاً وحيدا: «أبي.. لا مزيد!! أريد أبي.. عند بوابة القصر فوق حصان الحقيقة منتصبا من جديد.. وها أنا بين أحضان أبي وحولي أمي وآلاء ونورهان وعبد الرحمن.. نحن الخمس وردات.. وأخيراً وجدنا (البستان.. أبي).. جميعنا بين يدي حبيبنا الأكبر.. بين يدي الله».

title

مقالات ذات صلة

search