السبت، 05 أكتوبر 2024

04:49 م

"معركة" الملازم مصطفى رفعت

“لقد كان عملًا قذرًا، ما أقدمنا عليه لندخل هذا المكان”.. هذه الكلمات قالها القائد الإنجليزى “ماتيوس” لضباط الشرطة في الإسماعيلية عام 1952، عندما شاهد جثث وأشلاء الضباط والعساكر تُغطي أرجاء مبنى محافظة الإسماعيلية.

توقَّف القائد عن الكلام وأعطى التحية لهؤلاء البواسل، وترك الأحياء منهم يخرجون بـ"كلمة شرف" منه، كلمة شرف عقدها مع الملازم أول مصطفى رفعت، قائد قوات الشرطة في ذلك الوقت، ولم تكن حرباً بين بندقية متواضعة ودبابة مدمّرة، لكنها كانت حرباً بين العزيمة والإرادة والقوة والتحدي والكرامة من ناحية، وبين رغبة محتلّ غاشم في الوصول إلى هدفه من ناحية أخرى، ففي مشهد تاريخي لهم وللمقاومة المصرية، وقف رجال الشرطة يستقبلون الرصاص وقذائف المدافع في “25 يناير”، ليكون ذلك عيدَهم.. عيداً وضعوا بدايته بدمائهم.

الملازم أول مصطفى رفعت قائد قوات الشرطة  في الإسماعيلية عام 1952

في يناير 2007.. التقيتُ اللواء مصطفى رفعت بمنزله في شارع مراد بالجيزة (نشرت الحوار حينها في المصري اليوم)، القائد الذي كانت مهمته قيادة قوات الشرطة في الإسماعيلية.. عمره وقتها “٨٤ سنة”، تحدَّث يومها بثبات وقوة، وكأن ما حدث كان بالأمس فقط، الرجل اعتقلوه بعد المعركة وعزلوه من العمل، وأعاده الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى عمله تكريمًا له على العمل البطولي.
قاوم الإنجليز على أبواب محافظة الإسماعيلية هو وضباطه وجنوده وتحوَّلت جثث بعضهم لأشلاء، والفنان صلاح ذو الفقار كان شريكه في المقاومة.

قال لى يومها: "كنت أدرس الشرطة الجنائية أو شرطة الجريمة فى إنجلترا عام 52، وكان معي زميلي الفنان صلاح ذو الفقار، وصديقنا صلاح الدسوقي، الذي أصبح فيما بعد محافظاً للقاهرة، عرفنا من خلال الصحف الإنجليزية أن هناك مقاومة شعبية شرسة يقودها شعب القناة ضد الإنجليز. دون تردُّد قلت لزميلَيّ الدسوقي وذو الفقار: لازم نرجع مصر وننضم للمقاومة.

كتبنا طلباً لمدير كلية الشرطة بالانضمام، ووافق على أن ندرِّب قوات البوليس المصرية بعد حصولنا على فرقة “قتال”، وتوجَّهنا إلى الإسماعيلية، وكنا نوجِّه ضربات كثيرة للإنجليز، وسقط الكثير منهم ما بين قتلى وجرحى، لدرجة أن قائد القوات البريطانية أمر جنوده بألا يسيروا بمفردهم، وقال لجنوده: لا بد أن تسيروا أربعة مع بعض على الأقل، فالجند الذي كان يتحرك بمفرده يرجع لمعسكره جثةً هامدةً.

سطرت معركة الإسماعيلية مشهدا تاريخيا للشرطة والمقاومة المصرية

وأتذكر أنني نفَّذتُ عملية تفجير لأحد مواقع القوات الإنجليزية، وكان معي الفنان صلاح ذو الفقار، وحدثت مطاردة مثيرة بيننا وبين قوات الاحتلال، وانتهت باختفائنا داخل منزل أحد المواطنين، فأثناء سيرنا على سطح المنزل وجدنا “تعريشة” من الخشب، أخذتنا وسقطت بجوار أهل البيت، الذين كانوا يتناولون الطعام، وقال لهم صلاح ذو الفقار: السلام عليكم، وروى لهم التفاصيل، واحتضنونا حتى الصباح، وعاودنا المقاومة.

وأضاف "يوم 25 يناير 1952 كان يوم جمعة، وجدنا (فرَّاش) بالمحافظة، وهو أحد الفدائيين، يقول لنا: الحقوا.. الإنجليز حاصروا المحافظة.. وفي السادسة صباحاً، توجَّهنا إلى مقر المحافظة، وكان بداخلها 750 عسكرياً وضابطاً، وتوجّهتُ للتفاوض مع القائد الإنجليزى (إكسهام)، الذي كان يتحدث بغطرسة، وطلب منا أن نغادر المكان، ونُنزل العَلم المصرى، لكنني رفضت، وقلت له: على جثتي وزملائي، ولن نغادره أحياء. 

قال قائد الإنجليز“ماتيوس”: لقد كنتم رجالاً بواسل قاومتمونا بشراسة وقوة

ودارت الحرب، كنا نحمل بندقيات، الواحدة منها بها 5 طلقات فقط، بينما يمتلك جنود الاحتلال أسلحة وذخيرة حديثة ودبابات رهيبة، ويومها أحضروا لنا قطارًا وقالوا: اركبوا وغادروا القاهرة. وبدأ الجنود والضباط يتساقطون فى حرب استمرت 9 ساعات، ورفض القائد أن نعالِج الجرحى أو ننقلهم بالإسعاف لتلقِّي العلاج في المستشفى، واشتدت ضربات الإنجليز، وحرقوا المحافظة بالكامل، ويومها فقدنا ما بين 50 و60 قتيلاً ومئات الجرحى، ورفضنا أن نستسلم، وساعَدنا الفدائيون يومها بإحضار الذخيرة.

وافق 25 يناير 1952 يوم جمعة


 

أصعب موقف -كما حكى لي القائد العظيم- كان بعد سقوط الضحايا ما بين قتلى ومصابين، كانت الدماء تنتشر في كل مكان، هنا تجد ذراعًا وهناك تجد قدمًا أو أحشاء، لكن الموقف الأصعب عندما انتهت المفاوضات بيني وبين القائد الإنجليزى على أن أسلِّم له المحافظة، في تلك اللحظة سقطت دموع العساكر، وقالوا: لن نخرج من هنا، نموت أفضل، لازم نكمل المقاومة، مش مهم مفيش ذخيرة، نقاتلهم بالبنادق والطوب والشوم، حتى نلحق بزملائنا الشهداء. لقد كان الموقف غريبًا وعصيبًا، وأقنعت العساكر بالأمر، وأننا لن ننجح أن نجرح جنديًا واحدًا منهم، لكن في مقدور واحد منهم أن يقتلنا جميعًا، فالذخيرة والأسلحة انتهت وأصبحنا “عُزل”.

سقطت دموع العساكر،  وقالوا: لن نخرج من هنا، نموت أفضل.. لازم نكمل المقاومة


أتذكر أن “ياور” القائد “ماتيوس” دخل إلى مبنى المحافظة، وعندما شاهد الجثث والمصابين وضع يدَيه فوق عينَيه من المنظر البشع، وقال “هذا عمل قذر، ما أقدمنا عليه لنحتل هذا المكان”، وجدت الرجل وقائده “ماتيوس” يقف ويؤدي التحية العسكرية لنا وللضحايا، وقال “ماتيوس”: لقد كنتم رجالاً بواسل، قاومتمونا بشراسة وقوة رغم الفارق في الإمكانات والأسلحة. 

عدتُ إليه للتفاوض والخروج من المكان، وكان ذلك بالشروط التي وضعتُها رغم الهزيمة، لكن الرجل وافق على كل الشروط تقديرًا للدور البطولي الذي بذلناه، وكانت الشروط: أن نخرج من مبنى المحافظة في طابور طويل، وألا نرفع أيدينا مثل الأسرى، وأن يتعامل معنا بـ"كلمة شرف"، وألا يُنزع العَلَم المصري من أعلى مبنى المحافظة. ووافق الرجل، وتم اقتيادنا إلى المعتقل في صحراء الإسماعيلية.

كانت معركة الإسماعيلية حرباً بين العزيمة والإرادة والقوة والتحدي والكرامة


 

في المعتقل كانت المعاملة جيدة، على خلفية “كلمة الشرف”، لكن الطعام كان سيئًا، “قشر” برتقال وقطعاً صغيرة من البصل والخبز، والتقيت قائد المعسكر، وسألته: هل هذه كلمة الشرف.. الطعام سيئ؟ فردَّ علىَّ بحسرة: هذا الطعام نحضره من قبرص، لأن المصريين رفضوا العمل معنا وغادر الموقع قرابة 80 ألف مصري، وإذا كنتم تريدون طعامًا اكتبوا طلبًا للحكومة المصرية، ولن نعترض، تذكرت أن ذلك يعود بالنفع على القوات الأجنبية، فقلت له: إن قشر البرتقال رائع ومغذٍّ.
 

استمر الاعتقال قرابة 5 أشهر، وعدتُ بعد ذلك إلى القاهرة، وتم فصلي وزملائي من الخدمة، لأننا قاومنا الإنجليز، وعشتُ في الإسكندرية، وبعد أيام من الثورة حضر إلىَّ صديقي إبراهيم البغدادي، الذي أصبح مديرًا للمخابرات فيما بعد، وقال: سمعت بالثورة؟! قلت: لأ.. قال: طيب تعرف جمال عبدالناصر وجمال سالم وصلاح سالم ومحمد نجيب والسادات؟ قلت: لأ.. وأخذني من يدي إلى العباسية، حيث مقر قيادة المخابرات المصرية، والتقيت “عبدالناصر” الذي أمر بعودتي فوراً إلى عملي، وقال: كان لا بد أن تُكافأ على هذا العمل الرائع، ولا يكون جزاؤك العقاب والفصل من الوظيفة، وكرَّمني الرئيس عبدالناصر بعد ذلك، وحصلت على وسام الجمهورية. منذ عام بالضبط - 2006- حضر ضابطان إنجليزيان من القوة التي شاركت في الحرب ضدنا، وأعطاهما الله عمرًا طويلاً مثلي، وزار الضابطان مقابر الشهداء في الإسماعيلية، وقدَّما اعتذارًا لوزارة الداخلية.
رحم الله اللواء مصطفى رفعت.. ورحم الله كل شهداء مصر.

صور تذكارية يتزين بها متحف الشرطة تخليدا لمعركة الإسماعيلية الباسلة
title

مقالات ذات صلة

search