السبت، 26 أبريل 2025

02:16 ص

دكتوراه بعد الرحيل.. دموع القاعات على الحلم الغائب!

لم تكن دموع الأهل في قاعات الجامعات ناتجة عن فخر أكاديمي فقط، بل كانت تختلط بوجع الفقد، وحرقة الغياب، حين صعدت أرواح باحثات مجتهدات إلى السماء قبل أن يستمعن لتصفيق المناقشين ويضعن أيديهن على شهادات الدكتوراه، لكنها لحظات تختلط فيها الدموع بالعزة، والحزن بالتكريم، حين تقف الجامعة بكل ما تمثله من علم ورسالة لتقول: لم ترحلي قبل أن تنالي حقك.

في مشهدٍ لا ينسى، وقف الحضور في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، بين أساتذة وزملاء وأهل، يرددون بصوت مرتجف: "رحم الله من تعبت وارتقت"، شيماء السيد فاضل الزلاط، الباحثة الواعدة، كانت قد أنهت رسالتها في موضوع شديد الأهمية عن "سياسات النمو الأخضر وتأثيرها على قطاع الطاقة في مصر"، وكانت تستعد لمناقشتها،  لكن القدر لم يمهلها، وغيبها حادث سير مفاجئ قبل الموعد المقرر.

ومع ذلك، لم تترك الكلية بقيادة عميدها السابق الدكتور محمود السعيد نائب رئيس جامعة القاهرة للدراسات العليا الحالي، الذي تبنى الفكرة، رسالتها حبيسة الأدراج، بل قررت لأول مرة في تاريخها مناقشة الرسالة رغم وفاة صاحبتها، ومنحتها درجة الدكتوراه الفخرية مع مرتبة الشرف، وقف عميد الكلية معلنا أن هذا ليس مجرد إجراء أكاديمي، بل هو وفاء لروح باحثة قدمت كل ما تملك من جهد وفكر، قبل أن يخطفها الموت في لحظة قاسية.

وبعد شيماء بـ 3 أعوام، سجلت جامعة الأزهر سابقة مؤثرة منذ يومين، حين وافقت على مناقشة رسالة الدكتورة هانم محمود أبواليزيد، الأستاذة المساعدة بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات ببورسعيد، رغم وفاتها، احتشدت القاعة بالمحبين والزملاء، وتحوّلت جلسة المناقشة إلى ما يشبه المأتم المشرف، حيث بكت لجنة التحكيم بحرقة، لكنها منحت الراحلة درجة الدكتوراه عن جدارة، ورسالة امتنان لأسرتها.

هنا، لم تكن الشهادة مجرد ورقة أكاديمية، بل كانت صك اعتراف من المؤسسة العلمية بأن تعب الراحلة لم يذهب هباء، وأن ذكراها ستظل باقية بين جنبات الكلية وصفوف الطالبات.

وفي أحدث حلقات هذا المشهد الإنساني، أعلنت جامعة سوهاج منح شهادة الدكتوراه لباحث توفي خلال إعداده لرسالته، في لمسة إنسانية جديدة تؤكد أن الوفاء لا يدرّس، بل يمارس، الجامعة، بأساتذتها وإدارتها، وجهت بذلك رسالة قوية مفادها أن المؤسسات الأكاديمية ليست فقط للعلم والتقييم، بل أيضًا للحب والإنصاف والاعتراف.

حين تمنح الجامعات شهادة علمية لباحث رحل قبل موعده، فهي لا تكرم فردا فقط، بل تكرم القيمة والمبدأ، وتحفظ الكرامة، وتقدّم نموذجًا نقيا للوفاء في زمن طغت فيه الأرقام على المشاعر، مثل هذه المواقف تؤكد أن الجامعة ليست مجرد مبنى يوزع الدرجات، بل بيت حقيقي للعلم والإنسانية، يعرف كيف يعترف بجهد أبنائه حتى لو خطفهم الموت في منتصف الطريق.

أما لأسرة الباحث أو الباحثة، لا تعني الشهادة مجرد اعتراف رسمي، بل دواء لجراح لا تندمل، وشمعة في ظلام الفقد، ووساما يحملونه بفخر يقول: لم يضع التعب، ولم يُنس الجهد،  إنها لحظة انتصار للذكرى، وللأمل، وللقيم التي لا تموت.

تحية للجامعات حين يصبح الوفاء هو المنهج من جامعة القاهرة إلى الأزهر ثم سوهاج، نشهد تحولا إيجابيا في الفكر المؤسسي المصري، يربط بين الصرامة الأكاديمية والرحمة الإنسانية، ويعيد الاعتبار لما يمكن أن تقدمه الجامعات للمجتمع، ليس فقط على مستوى التعليم، بل على مستوى الأخلاق والتقدير،  إن منح شهادة دكتوراه بعد الوفاة ليس مجرد قرار إداري، بل موقف يحمل من النبل والكرامة ما لا تسعه القوانين، ولا تصفه الكلمات.

في ظل واقع أكاديمي تتشابك فيه التحديات، لا بد من توجيه تحية تقدير لكل من آمن بأن الوفاء لا يُؤجل، وأن حق الباحث لا يموت بموته، شكرًا لكل مسؤول أكاديمي، ولكل عميد وأستاذ ومشرف، شارك في بلورة هذه الفكرة النبيلة وحملها من مجرد موقف إنساني إلى نهج مؤسسي يُحتذى به. لقد قدتم بوعيكم وضميركم الجامعات المصرية نحو قمة جديدة من قِمم الإنسانية.

نوجه التحية الخالصة لكل الباحثين الذين أفنوا أعمارهم في محراب العلم، لمن يواصلون مشوارهم في صمت وكفاح، ولمن رحلوا قبل أن يسمعوا تصفيق اللجان، أنتم من تبنون هذا الوطن بالعلم والمعاناة، أنتم من تمنحون للمؤسسات الأكاديمية معناها الحقيقي، أنتم الأمل حين يغيب المنطق، والنبض حين يسكن الورق.

نعم، لسنا في مدينة فاضلة، نعم، هناك مشكلات وأخطاء، لكن ما نراه اليوم من تكريم علمي بعد الرحيل، هو دليل حي على أن الأمر ليس كله سوادًا ولا إحباطًا، هناك أضواء مضيئة تنبعث من رحم الفكر المؤسسي الجديد، تبشر بجيل إداري وأكاديمي أكثر حساسية، أكثر احترامًا للإنسان، وأكثر إيمانًا بأن العدل لا يجب أن يتأخر.

هذا النمط من القرارات يُرسخ لفكرة عظيمة: أن الجامعة لا تصدر فقط شهادات، بل تصدر قِيَمًا حقيقية، ومواقف إنسانية تُعاش وتُروى وتُخلّد.

search