الإثنين، 31 مارس 2025

09:32 م

مراكز الدراسات.. منابر للفكر أم غرف أخبار معاد تدويرها؟

كان يا ما كان، في سالف العصر والأوان، كانت المراكز البحثية الجامعية تعقد مؤتمرات لمناقشة قضايا استراتيجية معقدة، يحضرها باحثون جادون ومفكرون محترمون، أما اليوم، فقد تحولت بعض هذه الفعاليات إلى ما يشبه حفلة شاي فاخرة، حيث يجلس "الخبراء" يتبادلون عبارات فضفاضة عن "التحولات الجيوسياسية" و"الآفاق المستقبلية"، بينما الهدف الحقيقي هو التقاط صور جذابة لنشرها على السوشيال ميديا مع وسم #ملتقى_الباحثين_العظام!

في عصر السرعة، لم تعد بعض المراكز البحثية الإلكترونية، خاصة بعدما أصبح إنشاء مركز بحثي أسهل من إنشاء حساب فيسبوك، بحاجة إلى عناء البحث، ولا حتى إلى رفاهية التفكير، يكفي أن تجمع بعض الأخبار المتناثرة، تعيد ترتيبها بعناوين رنانة، ثم تصفها بـ"دراسة استراتيجية عميقة"، والأهم من ذلك، أن ترفقها بإشعار على فيسبوك يعلن عن "إصدار بحثي جديد يُزلزل الأوساط الأكاديمية."

"تقرير استراتيجي يكشف أسرار الاقتصاد العالمي، دراسة جديدة تفجر مفاجأة في المشهد السياسي، عناوين تشعرك بأنك على وشك الاطلاع على سر خطير، لكن ما إن تبدأ في القراءة حتى تكتشف أنك أمام ملخص لما قيل في نشرات الأخبار بالأمس، مضافًا إليه القليل من المصطلحات الأكاديمية لتبدو الدراسة أكثر رصانة، في النهاية، كل ما حصلت عليه هو إثارة زائفة وسراب معرفي.

والسؤال هنا: هل تحولت هذه المراكز البحثية منها الجامعية والخاصة إلى مجرد وكالات أنباء بنكهة باهتة؟ ربما، فبدل من أن تنتج أفكارًا، اكتفت بتجميعها، وبدل أن تحلل الواقع، اكتفت بسرده، وبدل أن تطرح رؤى، باتت تعيد تدوير العناوين كما يعيد البقال ترتيب بضاعته القديمة على الرفوف لتبدو طازجة.

والمفارقة أن هذه التقارير منها  ما يتساءل عن أسباب أزمة البحث العلمي، بينما هي بنفسها مثال حي على هذه الأزمة، لذا، لا تستغرب إذا استيقظت يومًا ووجدت "مركزا بحثيا" يُصدر دراسة عن التغيرات المناخية، فتكتشف أن المصدر الوحيد فيها هو : قالت قناة كذا عن الأمطار، وذكر موقع كذا نسبة الجفاف، وكانت مصدر بيانتها من تغريدة أحد المغردين عن إرتفاع معدلات الحرارة وسيكتب المصدر تغريدة موثوقة.

يبدو أننا دخلنا عصر "البحث بالنقل" فأيها الباحث الحقيقي، لا تنس أن تضيء شمعة وسط هذا الظلام الفكري، أو على الأقل، أن تحتفظ ببعض الأسبرين لعلاج صداعك بعد قراءة هذه "الدراسات."

أقسمتُ أن أي دراسة تقع بين يدي لن تفلت من فضيحتي لها، وسأعرضها كما تستحق، إن سمح لي الوقت بذلك، فلن أتأخر لحظة، فالجودة، أيها الباحث الوهمي، أهم ألف مرة من الحشو والثرثرة التي لا طائل منها.

وطالما أن مراكز الأبحاث أصبحت تعمل بمنطق "اكتب وانشر ولا يهمك شيء"، دون تحكيم أو مراجعة، فقد آن الأوان لتأسيس رابطة جديدة تنقذ ما يمكن إنقاذه،  سأقترح على الزميل نقيب الصحفيين القادم إطلاق "رابطة النقاد الأكاديميين"، حيث سنمارس دور المحكمين الغائبين، ونضع هذه الدراسات تحت المجهر، لا لشيء سوى لنكشف أنها لا تصلح إلا كتمارين إنشائية تصلح لطلاب المرحلة الابتدائية،  وربما حتى هؤلاء سيرفضونها .

إلى كل مسؤول عن البحث العلمي في مصر أهمس في اذنيك "مستقبل البحث العلمي في خطر"، والمراكز البحثية وبعض الكليات الجامعية تتحول تدريجيًا إلى مسارح استعراضية، تقدم تحليلات مصطنعة لجمهور يبحث عن العمق، فلا يجد إلا الضحالة ولكن بأسلوب احترافي.

لسنا ضد إنشاء المراكز البحثية، بل على العكس، ندعم تمامًا وجود منصات بحثية جديدة تساهم في إثراء المعرفة، وتعزز من عملية صنع القرار من خلال تحليلات ورؤى متعددة، لكن المشكلة ليست في العدد، بل في المحتوى والجودة، لا يمكن أن تتحول المراكز البحثية إلى مجرد ناشرين للأخبار في شكل تقارير، أو إلى منصات تفتقر لأدنى معايير البحث العلمي من منهجية ومصادر وتحكيم، نحن بحاجة إلى مراكز حقيقية، يقودها باحثون مؤهلون، وتُنتج دراسات مبنية على أرقام وبيانات وتحليل عميق، لا على إعادة تدوير لما هو متداول في وسائل الإعلام، الانفتاح مرحب به، لكن العشوائية مرفوضة، فالمهم ليس أن يكون لدينا "أكبر عدد" من المراكز، بل أن نملك "أفضل المراكز" .. مش كدا ولا ايه؟!.

وللحديث بقية،،

search