
"شعب الدال".. حين تتساوى رأسك مع المزيفين
لقد باتت "الدال" في زمننا هذا أشبه بوسام يُعلق على الصدور بلا معركة، وبطاقة عبور تمنح أصحابها الهيبة والسلطة دون كفاح، أصبحت الدكتوراه، التي كانت يومًا حصنًا للعقل والفكر، سلعة تُباع في أسواق الوهم، حيث لا جهد ولا عرق ولا بحث، بل مجرد أوراق مزيفة تمنح لمن يدفع أكثر.
أين هي معاناة الباحث الحقيقي؟ أين تلك الليالي الطوال التي يقضيها بين صفحات الكتب الصفراء والمراجع الثقيلة؟ أين تلك اللحظات التي يُحاصر فيها الباحث بين فرضياته المتشابكة، وبين أرقام تحليلاته التي ترفض الانصياع لمنطقه؟ أين الساعات التي يقضيها في كتابة رسالة علمية تُدقق فيها كل فاصلة، ويُنقد فيها كل استنتاج، وكأنما يخضع لمحاكمة علمية قاسية قبل أن يحق له أن يُلقب بالدكتور؟
لكننا اليوم، أمام مشهد عبثي مخزٍ.. شهادات تمنح لمن لم يكتب سطرًا بحثيًا في حياته، وألقاب تُوزع على من لم يعرف قسوة النشر الدولي ولا تعقيدات الاستشهادات العلمية ولا أوجاع تعديل الرسائل عشرات المرات. كيف أصبح اللقب متاحًا لمن لا يستحق؟ كيف بات بإمكان أي شخص أن يحصل عليه من مراكز أشبه بجحور النصب والاحتيال؟
لقد مر أكثر من 5 أشهر على المقال الأخير الذي نشره عالم جليل على صفحات جريدة الجمهورية، والذي دق فيه ناقوس الخطر، محذرًا من هذا الطوفان الجارف من الشهادات المزيفة، لكن ماذا حدث بعد ذلك؟ لا شيء! لا قرارات، لا منصات إبلاغ، لا ملاحقات قانونية، وكأن المجلس الأعلى للجامعات اختار الصمت المطبق أمام كارثة تهدد أساس التعليم في مصر.
إن ما يحدث ليس مجرد احتيال أكاديمي، بل هو جريمة في حق الوطن، فحين يصبح اللقب العلمي مجرد زينة على بطاقات الهوية، حين يُعامل الباحث الحقيقي الذي أفنى عمره في الدراسة بنفس معاملة من اشترى "داله" بأموال مشبوهة، حينها لا بد أن ندرك أننا في طريقنا إلى أن نصبح "شعب الدال"! شعبٌ يحمل أفراده هذا الحرف الرفيع دون أن يحملوا معه أدنى فكرة عن قيمته الحقيقية.
إن المسؤولية تقع بالكامل على عاتق وزارة التعليم العالي والمجلس الأعلى للجامعات، فالصمت جريمة، والتجاهل خيانة، يجب أن تكون هناك قرارات حاسمة، وملاحقة صارمة لكل من يبيع ويشتري هذه الألقاب، ويجب أن يُفضح هؤلاء أمام الرأي العام، فالتعليم لا يحتمل مزيدًا من العبث، وإلا فعلينا أن نستعد لمستقبل يُدار فيه العلم بالمزيفين، وتُمنح المناصب لأشباه العلماء، وعندها.. على البحث العلمي السلام!
لماذا لا تكون هناك منصة رسمية للإبلاغ عن هذه المراكز الوهمية التي تعيث في الأرض فسادًا؟ لماذا يُترك الأمر لعشوائية الفضح الفردي بينما ينبغي أن يكون هناك تحرك مؤسسي صارم؟ أليس من المخجل أن نرى التعليم يُباع في دهاليز النصب، بينما الجهات المعنية تكتفي بالمراقبة الصامتة؟ إن غياب منصة رسمية ليس مجرد تقصير، بل هو تواطؤ غير مباشر مع هذا العبث الذي يحوّل العلم إلى تجارة، والدكتوراه إلى بضاعة رخيصة. إلى متى نترك هؤلاء المنتفعين يبيعون الوهم، ويدمرون سمعة البحث العلمي، ويخلقون جيلاً من "الدكاترة" الورقيين؟ المنصب، واللقب، والمال، كلها باتت تُباع، فمتى نرى وقفة حقيقية لحماية ما تبقى من كرامة التعليم؟
إلى الدكتور أيمن عاشور، هل وصلتك أصوات الأكاديميين الشرفاء الذين يصرخون منذ سنوات من تفشي ظاهرة الشهادات الوهمية؟ هل رأيت كيف تحولت "الدال" من رمز للعلم والاجتهاد إلى مجرد زخرفة يضيفها كل من يدفع حفنة من الجنيهات لمراكز بير السلم؟ هل تدرك أن كل يوم يمر دون تدخل حقيقي هو يوم يُباع فيه وهمٌ جديد يُضاف إلى سجل الفساد الأكاديمي؟، التاريخ لن يرحم، والتعليم لن يحتمل مزيدًا من التخاذل، إما أن تتحركوا فورًا لإنقاذ ما تبقى من كرامة البحث العلمي، أو دعونا نودّع التعليم الحقيقي، ونستعد لعصرٍ جديد يكون فيه كل مواطن "دكتور" بلا ورقة بحث، بلا كتاب، بلا معنى!
إن لم تتحركوا اليوم، فاستعدوا لغدٍ يصبح فيه كل جاهلٍ "دكتورًا"، وكل نصّابٍ "أستاذًا"، وكل جامعةٍ "سوقًا"، وحينها... لا عزاء للعلم!!
وللحديث بقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
سرقة الأبحاث العلمية.. عندما يتحول الأكاديمي إلى لص!
26 مارس 2025 02:57 م
مراكز الدراسات.. منابر للفكر أم غرف أخبار معاد تدويرها؟
21 مارس 2025 11:51 ص
لم يستوصوا بالوافدين خيرًا
02 يناير 2025 10:47 ص
أكثر الكلمات انتشاراً