الثلاثاء، 10 سبتمبر 2024

04:30 ص

نجوى مصطفى

نجوى مصطفى

A A

العامري فاروق الذي عرفته!

يومًا عاديًا ممتلئ بالعمل والمشاوير ومتابعة الأولاد والاطمئنان عليهم والمناكفة معهم أحيانًا، من شرفتي تبدوا أيام الموجة الباردة مستمرة وستعلن عن ذروتها قريبًا، قلبي به نبضة لا تُعجبني وتيرتها فأحاول تهدئته بقطعة ملابس إضافية تُسكن قلقه لكنه يستمر، أعرف السبب، لكني اتجاهله، طالما لا يوجد خبر مؤكد فكل الأمور قابلة أن تكون جيدة، لكن تلك أحلام البائسين، فلم تمر إلا دقائق حتى عرفت أن قطعة الملابس الإضافية غير قادرة على تدفئة قلبي الذي تجمّد وهو يتلقى خبر رحيله، حتى جملة الأبنودي التي تواسيني في مثل تلك الأوقات "اللي اتخطفوا فضلوا أحباب.. صاحيين في القلب كأن محدش غاب" لم تستطع مواساتي، لأنه ببساطة، العامري فاروق لو عاش ألف عام ورحل بعدها سيظل "صاحي في القلب كأنه مغابش".

حديثي لا يتعلق بالعامري فاروق، أول وزير دولة للرياضة بعد فصلها عن الشباب، ولا نائب رئيس مجلس إدارة النادي الأهلي ورئيس مكتبه التنفيذي وبعيدًا عن كل ذلك فهو قامة رياضية رفيعة، ولا يتعلق حديثي أيضًا برجل التعليم والثقافة الذي حصل على وسام التعليم الخاص على مستوى الجمهورية من نقابة المعلمين، وجائزة رائد من رواد التعليم الخاص من وزارة التربية والتعليم، وأحسن ناشر لكتب الأطفال والناشئة، وأحسن ناشر للترجمة من وإلى اللغة العربية والقائمة تطول بدولاب جوائز وأوسمة لا تعطى إلا لرجل فذ فعلًا في كل مجال دخله.

حديثي لا يتعلق بذلك كله، بل بالرجل الذي روى عنه زوجي وأصدقائه المقربون عند تناولهم وجبة العشاء في إحدى المطاعم، وبعد الانتهاء من الطعام وجدوه يطلب من العامل أن يجمع كل ما تبقى من الطعام سواء سلطات أو غيرها، ولأن الموقف لم يتعاملوا معه باعتيادية خاصة وأن المتبقي لم يكن كثير، ليخبرهم أن الطعام المتبقي والسلطات بدلًا من أن تُرمى يأخذها ويعيد تجهيزها لتوزيعها على الفقراء، فالعامري فاروق كان لا يستطيع تناول طعامه دون أن يفكر في الآخرين، بل يقول زوجي "علّمنا أيضًا تلك العادة".

لكن ما ظننته فرديًا أو شخصيًا، لم يكن أكثر من قاعدة عامة تعامل بها رجل وُصف بالإنسانية تسير على قدمين، وما رأيته أنا وأصدقاؤه  ليس إلا موقف تكرر مع مئات غيري، صاروا شهودًا يروون تلك الوقائع، فصديق هنا يروى كيف أصر الرجل على تقاسم طعامه معهم في إحدى ليالي رمضان بأحد فروع النادي الأهلي، وزميل هناك  يحكى عن علاقته بعمّال النادي الاستثنائية، وموظفين انتظروا انتهاء العزاء ليشيعوا الفقيد بدموع صادقة أصروًا أن لا يراها أحد.

صرف رواتب بعض العاملين من ماله الخاص، الحضور المعنوي والمادي مع كل من يلجأ إليه كأنه يعرفه منذ زمن، الاطمئنان على أصغر عامل في النادي أو أي مؤسسة يرأسها قبل الذهاب إلى بيته كأن النوم سيجافيه إن أجل مشكلة ما إلى الغد، إنصاف كل من يشعر أنه ظُلم، هذه كلها مجرد نبذات ليس أكثر عن المواقف التي نشرها كل من عرف العامري فاروق، مواقف نشروها بعد رحيله لتكون أكبر إثبات أنها حقيقية فلا رياء ولا تذلف ولا طمعًا في رجل بين يدي الله الآن.

لذلك، فإن خسارتنا الكبيرة استطيع أن أقول أنها خسارة فادحة، وتجمّد قلوبنا لم يكن بسبب رحيل رجل نجح في الرياضة بل رجل نجح في الاختبار الصعب وهو الإنسانية، تلك الصفة التي يسقط فيها كثيرون، ولذلك أيضًا، فلتسمح لنا السيدة مي طارق التي اختارت وصف "الفخر" في نعي زوجها، أن نشاركها الوصف نفسه، لأنه معبر ودقيق، فربما لم يكن العامري فاروق سعيدًا بكل من عرفهم، لكن الأكيد أن كل من عرف الفقيد فخر بذلك، وستظل ذكرى معرفته قادرة على نثر الفرح والحنين في قلوب محبيه.

search