الخميس، 21 نوفمبر 2024

09:15 م

عادل إمام.. "رجب لن يموت أبدًا"

جاءت اللحظة المنتظرة. ها أنا ذا على موعد للجلوس مع عادل إمام، الإنسان بينما يتحضّر لمواجهة مصيره الأخير المحتوم. كان الحصول على مقابلة في هذا الوقت، الذي يكثر فيه الحديث عن تدهور حالته الصحية، حلمًا من أحلام اليقظة.

العائلة، الخبيرة بالتعامل مع الوسط الفني والصحفي، ترغب في صون ذكراه، والإبقاء على صورته في نهاية عمره ناصعة من دون غمز أو لمز، كما يليق بزعيمٍ للكوميديا والفن السابع. وهذا أبسط حقٍ له ولهم.
لكن رغبة أخرى لحوحة تدفعني للمحاولة. من لا يريد أن يسمع من عادل إمام في هذا الظرف المثاليّ، كإنسان عايش فترة مهمة من تاريخ مصر. والرجوع إلى قائمة أعماله الفنية وتاريخه خير دليل.

مراجعة أرشيف الرجل تقطع بأنه شخص يحسب لكل كلمة حسابها، يقول ما يريد فقط، إذا ما سنحت الفرصة لإقناعه من الأساس بالظهور إعلاميا.

"كاريزما طاغية"

في عيد ميلاده الأخير، الـ83 (17 مايو 1940)، انتزعت منه يسرا ولبلبة خلال حضورهما حفلا عائليا مقتصرا على أقرب الأقربين، بعض الكلمات التي خصّ بها الإعلامي شريف عامر، في مداخلة هاتفية على إحدى القنوات الفضائية العربية.

تعليق عفويّ ذكيّ من "إمام" أربك الإعلامي المصري، العائد من رحلة احتراف قصيرة في قناة "الحرّة" الأمريكية. تعليق جعله يفقد السيطرة على الحوار: "أنت بتضحك ليه؟ إحنا لسه قولنا حاجة؟". 
ويتمادى "إمام" في إثبات قوة حضوره وطغيان كاريزماته، ويعاجل شريف بـ"القاضية". يعدّد شريف "أفضال" الفنان الكبير، ويذكّر بإسهامه في تشكيل قوة مصر الناعمة، ويقول إن "بناته تعلمنّ اللغة العربية بسببه وبفضله". لكن عادل، بروح ابن البلد، يمازحه «عايز تقولي إنك ابن ناس وبناتك مكانوش يعرفوا عربي؟".

"دردشة حرة"

ضاعت فرصة مثالية ربما لن تتكرّر. يومها انتُقد شريف عامر بشدّة على تضييع فرصة مهنية نادرة، كان يجب عليه أن يُحسن استغلالها لصالح الجمهور المتعطّش إلى كلمة من الكوميديان المحتجب، الغائب عن الاستوديوهات منذ نحو ثلاث سنوات، و"أغلب الظن أنه لن يعود للتمثيل مجدداً". لكن الرسالة وصلت: "الزعيم بكامل لياقته الذهنية"، واحتمالية إصابته بـ"الزهايمر" قد تكون مستبعدة.

جاءت إذا اللحظة المنتظرة. رفضتُ قائمة الأسئلة المسبقة، بل رفضتُ أن أسميه حوارًا. مساحة من الدردشة الحرّة عن فلسفة الحياة والموت عند عادل إمام.

"سلام يا صاحبي"

لا يذكر عادل إمام أنه مات في أي فيلم من أفلامه، وبخاصة أفلام البطولة المطلقة، التي ودّع بها أدوار "السنّيد". كان دوما "صاحب صاحبه"، الذي يثأر وينتقم له من قاتليه، خاصة في حالة حضور سعيد صالح، وينتهي الأمر بـ"تعظيم سلام" وتصفيق حادّ، لـ"الهلفوت"، والمشبوه"، ولـ"رجب"، للنجم البطل المهمّش صانع المعجزات على الشاشة، الملتزم بالعزف على وتر ما يريده الجمهور.

في فيلم "زهايمر" واجه عادل إمام حقيقةً لا مفرّ منها، كلّنا إلى الموت سائرون. وبالفعل كان الموت يحوم حول صاحب عمره، سعيد صالح، المحاصر بالشيخوخة والخرف (مات 1 أغسطس 2014 عن 76 عاما).

يستعيد عادل المشهد الأخير الذي جمعهما، والذي يلخّص الرحلة الحافلة بينهما "من المرات النادرة التي أشعر فيها بعدم قدرتي على السيطرة على مشاعري أمام الكاميرا، المخرج شريف عرفة هناك، أشعر بقلقه وتوتره. مرعوب حرفيّا من عدم قدرة سعيد على تذّكر تفاصيل المشهد. كدت أبكي مع كل كلمة يقولها، لا، تأثّرت وبكيت، أدركت أن سعيد مشرف على الموت وقد اقتربت ساعته، وأن هذه هي كلمة النهاية بيننا".

"نعم، لم أحضر جنازته! اكتفيت بأن يكون هذا المشهد وداعي الأخير لصاحب عمري. لا أحبّ حضور الجنازات، مشاعري الحقيقية لا أحبّ أن يطّلع عليها أحد، تخصّني، اطّلع الناس على مشاعري على الشاشة بما يكفي، لدرجة الابتذال أحيانًا".

"زنزانة البطولة والنجومية"

يتوقف قليلا، ويلتقط نظارته وهاتفه "عندما نظرت إلى سعيد من وراء السياج الحديديّ، كما رسم المخرج المشهد، في هذه اللحظة أدركت أنني كنت محبوسًا ومحتجزًا لسنوات طويلة في زنزانة النجومية، خلف أقنعة البطولة المطلقة. الإنسان العادي يكبر ويشيخ ويخرّف، وفي النهاية يموت، لكني لم أستطع أن أكون إنسانا عاديّا".

يضحك بينما يسرح ببصره في اللامكان "على ما أتذّكر، مِتُّ فقط في المسلسلات، في (أحلام الفتى الطائر، ومأمون وشركاه)، وتقريبا أكثر من 30 مرّة في صحافتكم وإعلامكم".

أذكّره بموته في نهاية فيلم "حتى لا يطير الدخان"، بين يديّ "حبيبته" في الفيلم، سهير رمزي، لكنه يستدرك "الجمهور لم يحبّ النهاية، والعمل لم يحقق النجاح المنتظر في السينمات، وتأثرت الإيرادات كثيرا. البطل الشعبي الخارق لا يموت، هكذا يريد الناس".

"لقد أنعشت ذاكرتي. من الممكن أيضا أن يقولوا إنني مِت في (الإرهابي)، كل الظروف تقطع بذلك، لكنني تمنيتُ أن أغيّر النهاية، هذا الفيلم بالذات، فعلوها مع (بريء) أحمد زكي، وقصّوا النهاية تماما، أتخيّل عليّ في (الإرهابي) حليق الذقن، ساقته الأقدار إلى مجمع التحرير، ليبحث عن (الكباب) ويطلّق (الإرهاب)، يراجع أفكاره ويذوب مع هموم الناس، بعد أن صحّت توبته عن العنف".

"أنا مش هموت"

على عكس علاقته السلسة بسعيد صالح، كانت علاقته بأحمد زكي متوترة يغلب عليها التنافس والغيرة الفنية، التي تصل لدرجة العداوة أحيانا. يعود عادل إمام إلى الوراء قليلا، إلى نقطة تحوّل مسيرته الفنيّة "(مدرسة المشاغبين) لم تكن مسرحية عادية، مؤلفها علي سالم كان وقتها غاضبًا من كل شيء، كان يبصر التحوّل التراجيدي في مصر، انقلاب في منظومة القيم والأخلاق المصرية. كان هناك تياران، تيّار غالب ومكتسح رسم طريقه وفقًا لمقتضيات اللحظة، تيّار الانفتاح السداح مداح، والفهلوة والسلع الترفيهية والوجبات السريعة. وآخر خافت ومهزوم، لكن محاولاته في تقديم فن يعيش اصطدمت بتهمة التعالي على الناس". 
"لكن أحمد زكي، لديه معادلة موزونة، منافس شرس. كان يجيد اختيار أدواره، وكنتُ أشعر بالغيرة بالفعل من نجاحاته، البعض زعم أنني كنت أكرهه!". يضحك منشرحا "لم يضع الإيرادات في حساباته، وكان يموت كثيرا في نهاية أفلامه".

"أحمد زكي كان يخشى الموت، كأنه في سباق مع الزمن. فكرة الموت تطارده. كنت أعرف ذلك عنه. جمعني به لقاء مع بعض الأصدقاء، وتعمّدت الحديث عن الموت باستفاضة واستفزاز، لكنه خرج عن السيطرة يومها، انفعل زكي فجأة، وصرخ فينا: (أنا مش هموت، سبع الليل مش هيموت، اللي هيموت رجب فوق صفيح ساخن، والهلفوت). الله يرحمه، كلنا هنموت في النهاية يا أبو هيثم".


"ثبات انفعالي"

يعود "إمام" إلى لحظة خاصّة، رغم اتفاقنا على تجنب الخوض في الأسئلة الشخصية "جاءني خبر وفاة أبي على خشبة المسرح، ليلتها حاولت أن أتمالك مشاعري، استكملت العرض رغم انهياري من الداخل. في الغالب، أستقبل أخبار الموت بثبات انفعالي غريب، كانت أمي مريضة، وتمنيت لها الموت حتى تتخلّص من أوجاعها. وعندما توفيت، رأيت أبي يبكي للمرة الأولى. ربنا يلحقنا بهم على خير. لا حيلة في الموت، كما يقولون".

يعلنها عادل إمام صريحة وبارتياح "لا أخشى الموت الحقيقي، أخشى أن أُنسى، أن يموت فني، هل مات (رجب) رغم تقلّبه طوال هذه السنوات (على صفيح ساخن) من الأحداث السياسية الكبرى، ليس في مصر فقط، بل في العالم. أبدًا! الإضحاك والترفيه والتسلية أهداف في حدّ ذاتها. رجب يعيش، وسيعيش لفترة طويلة".

حوار تخيليّ مع "الزعيم".. مع مراعاة أنه لا يمتّ للحقيقة بأدنى صلة!

title

مقالات ذات صلة

للصبر حدود!

22 يناير 2024 12:03 م

search