الإثنين، 25 نوفمبر 2024

09:08 ص

في 125 سنة.. الجنيه بدأ قويًا وانهارت عضلاته أمام ضربات "فتوة العملات"

ولاء عدلان

A A

“دا الفتوة الكبير.. نصير الأقوياء وهازم الضعفاء”.. بهذه الكلمات لخص الفنان وائل نور في أحد مشاهد فيلم “البيه البواب” أزمة تراجع قيمة الجنيه مقابل الدولار في نهاية ثمنينيات القرن الماضي.

والغريب أن هذه الكلمات لا تزال تنطبق على عصرنا الحالي، فخلال نحو عامين فقط قطع الجنيه رحلة هبوط قاسية للغاية بدأت بخسارة 60% من قيمته خلال 2022، تلاها تراجع بـ25% في العام الماضي، ثم دخل في تراجع جديد لم تُحدّد نسبته بعد.

خفض قيمة الجنيه

فاجأ البنك المركزي، صباح اليوم، المصريين بخفض جديد لقيمة الجنيه مقابل الدولار، معلنًا تحرير سعر الصرف وتركه ليتحرك وفق آليات السوق، سعيًا إلى توحيد أسعار الصرف في خطوة وصفها بـ"بالغة الأهمية"، حيث تسهم في القضاء على تراكم الطلب على النقد الأجنبي في أعقاب إغلاق الفجوة بين سعر صرف السوقين الرسمية والموازية.

وخلال الساعات الأولى من القرار، تراجع سعر الجنيه في البنوك الحكومية إلى حدود 49 جنيهًا للدولار الواحد من مستواه السابق البالغ 30.85 جنيه للدولار.
وتوّقع الخبير المصرفي، عز الدين حسانين، أن يواصل الجنيه تراجعه متأثرًا بقرار تحرير سعر الصرف لفترة قبل أن يستقر عند مستويات 42 جنيهًا للدولار، ثم 36 جنيهًا في وقت لاحق من العام، تحديدًا مع نجاح الحكومة في القضاء على السوق السوداء للعملة، وضخ سيولة دولارية في القطاع المصرفي دون أي قيود.

رحلة قاسية

عمر الجنيه الورقي يعود لعام 1899، عندما أصدر البنك الأهلي أول نسخة منه (جنيه الجملين الشهير)، وكانت قيمته وقتها تعادل 7.5 جرام ذهب، أما الآن فجرام الذهب يتجاوز 2900 جنيه.

ظل الجنيه طوال سنوات شبابه الأولى متقدمًا على أسعار عملات الدول الكبرى أو مقاربًا لها، وخلال الفترة من عام 1899 إلى 1924، كانت قيمته تتراوح بين 7.5 جرام و6 جرامات ذهب، بينما كان “فتوة” العملات وقتها الجنيه الإسترليني يعادل ما بين 7 و6.2 جرام ذهب، وفي عام 1914 كان الإسترليني الواحد يساوي حوالي 900 قرش، أي أقل من جنيه واحد.
وعندما بدأت صناعة السينما في مصر خلال ثلاثينيات القرن الماضي، كان للجنيه نصيب من أضوائها، ففي فيلم “سلفني 3 جنيه”، وهو من إنتاج عام 1939، كان الفنان الراحل علي الكسار يسعى لتدبير 3 جنيهات لسداد قيمة رهن منزله، في وقت كان الجنيه الواحد يمكنه شراء نحو 5 جرامات من الذهب.

وخلال الفترة من 1945 إلى 1949، تراجع الجنيه قليلًا ليساوي نحو 4.2 دولار، وذلك على وقع عدة عوامل سياسية واقتصادية، أبرزها تداعيات الحرب العالمية الثانية وتراجع قيمة الإسترليني، الذي ارتبطت به العملة المصرية منذ 1914 إبان فترة الاستعمار الإنجليزي، وانضمام مصر لصندوق النقد الدولي في عام 1945، ووقتها تم تقييم الجنيه بـ3.7 جرام ذهب.
بحسبة بسيطة يحكي لنا الفنان بشارة واكيم مجسدًا شخصية “حسين بيه” في فيلم “غني حرب”، كيف كان الجنيه الواحد في عام 1947 يساوي 4 دولارت، قائلًا لكمال الشناوي هتكسب 5 جنيهات في اليوم (حتة واحدة) يعني 20 دولارا أي 100 شلن، وخلال تلك الفترة كان سعر سيارة سكودا طراز 1101 يبلغ نحو 450 جنيهًا، وهو رقم لو تعلمون عظيم وقتها.
بخفة دم نجم الكوميديا الراحل إسماعيل ياسين، يلخص لنا في أحد مشاهد فيلمه الشهير “المليونير” (1950)، استقرار سعر الدولار في تلك الفترة، عندما عرّف نفسه باسم “جميز دولار”، مفسرًا ذلك بأن يوميته البالغة 20 قرشًا تعادل واحد دولار، وفي ذلك الوقت كان سعر كيلو اللحم الواحد حوالي 18 قرشًا، ما يكشف استمرار قوة الجنيه الشرائية رغم بلوغه من العمر 51 عامًا.

بعد ثورة 1952

ومع اندلاع شرارة ثورة يوليو 1952، تغيّر وجه مصر كثيرًا، سياسيًا واقتصاديًا، وخلال السنوات الأولى ورغم تقدمه في العمر، تمكن الجنيه من المحافظة على قوته عند مستويات 4 دولارات للجنيه الواحد، إلى أن تم ربطه بالورقة الخضراء "الدولار الأمريكي" في عام 1962 ليتراجع إلى مستوى 2.3 دولار للجنيه الواحد.
واصلت عدسات السينما توثيق رحلة الجنيه، لكن هذه المرة أبرزت نشاط السوق السوداء في الستينيات، ففي فيلم “الرجل الثاني” (1959)، ظهرت الفنانة الراحلة سامية جمال في مشهد وهي تعرض على أحد الزبائن تغيير دولارات بسعر أعلى من البنك، وأتمت الصفقة بسعر 40 قرشًا للدولار الواحد (الجنيه يساوي 2.5 دولار).
ظل الدولار خلال الفترة من 1962 وحتى 1970 مستقرًا نسبيًا عند مستويات 40 قرشًا، لكن قوته الشرائية بدأت تتراجع، ففي مارس 1962 طُرِحت سيارة “نصر 1300” للبيع للجمهور مقابل مبلغ 700 جنيه، وارتفع سعر كيلو اللحم من 18 قرشًا في الخمسينيات إلى مستوى 48 قرشًا خلال عام 1969.

إعلان لسيارة “نصر 1300” يعود لعام 1962

عصر الانفتاح والصندوق

وفي بدايات عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات 1970-1981، ظل الجنيه يتحرّك مقابل الدولار عند مستويات 38 و43 قرشًا، إلى أن جاءت محطة 1977 الحاسمة عندما لجأت مصر للمرة الأولى في تاريخها للاقتراض من الخارج، وكانت وجهتتها صندوق النقد الدولي الذي كما عهدناه طالبها بخفض قيمة العملة والدعم، وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد حدث وقتها أول تعويم للجنيه، إذ خفض البنك المركزي سعره مقابل الدولار إلى 60 قرشًا من 39 قرشًا، ما تسبّب في رفع الأسعار وقتذاك.
“سيد مرعي يا سيد بيه، كيلو اللحمة بقى بجنيه”، أحد الشعارات الخالدة للتظاهرات الشعبية التي شهدتها شوارع القاهرة ردًا على قرار الحكومة في يناير 1977 الذي تسبب في رفع أسعار السلع الأساسية بـ25% والخبز وحده ارتفع بـ50%، وبنهاية عهد السادات كان الدولار يتداول عند 70 قرشًا.
“بكام الدولار النهاردة؟”.. سؤال طرحه "البيه البواب" عبد السميع (الفنان أحمد زكي) على الفنان فؤاد المهندس في فيلم من إنتاج 1987، ليرد عليه “الدولار يجيله فوق الـ190 قرشًا”، موثقًا تجاوز الدولار لأول مرة لقيمة الجنيه، وفي عام 1990 تلقت العملة المصرية ضربة قوية من فتوة العملات "الدولار"، إذ تراجعت إلى 2.79 جنيه للدولار الواحد.
أما الزعيم عادل أمام فقد ظهر في واحد من أشهر أفلامه “بخيت وعديلة”، وهو يخبر عديلة (الفنانة شيرين) بأن الـ10 آلاف دولار تعادل 33 ألف جنيه، ليواصل شريط السينما رصد رحلة الجنيه الشاقة، ويخبرنا بأن الدولار في عام 1995 وصل إلى مستوى 3.3 جنيه، وتحرك أعلى هذا المستوى قليلًا في نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، وتحديدًا في عام 2001 عرض المذيع (الفنان هاني سلامة) في أحد مشاهد فيلم “أصحاب ولّا بزنيس” وقتها جائزة على متابعيه بقيمة 10 آلاف دولار، وقال إنها تساوي 40 ألف جنيه، في إشارة إلى تراجع الجنيه لسعر 4 جنيهات للدولار.

تصريح لوزير الاقتصاد في عام 1981 سليمان نور الدين

دوامة التعويم

وتمكنت علامات الضعف من الجنيه المصري بعد بلوغه من العمر 102 سنة، ليتلقى ضربة تعويم جديدة، عندما قرّر المركزي خفض الجنيه في يناير 2003 إلى 5.35 جنيه للدولار الواحد من مستوى 3.7 جنيه، ليختبر وقتها مستويات تاريخية عند 7 جنيهات، لكنه تماسك قليلًا لاحقًا وأبدى استقرارًا أدنى مستوى 6 جنيهات للدولار حتى عام 2011 عندما بلغ أعلى مستوياته عند 5.8 جنيه للدولار. 
وشهد الجنيه، المنطفئ، تقلبات ملحوظة عقب ثورة 25 يناير 2011، فتراجع إلى 6.3 جنيه للدولار بنهاية 2012، وظل يتراجع إلى أن تلقى ضربة قاسية من فتوة العملات الذي قفز بقرار المركزي في نوفمبر 2016 إلى مستوى إلى 15.7 جنيه، من 8.8 جنيه للدولار بداية العام، ووقتها وصل سعر جرام الذهب إلى 418 جنيهًا.
وخلال الفترة من 2016 إلى 2021 ظل الدولار مستقرًا نسبيًا عند 15.7 جنيه، إلى أن جاء مارس 2022 بخفض جديد لسعر صرف الجنيه "الهرِم" مقابل الفتوة الأخضر إلى مستوى 19.7 جنيه للدولار، وقبل أن ينتهي العام كان الجنيه على موعد مع ضربة جديدة ليتراجع إلى 24.7 جنيه للدولار.
وفي بداية العام الماضي أيضًا سمح البنك المركزي بتراجع الجنيه مقابل الدولار، ليسجل مستويات 32 جنيهًا للدولار الواحد، انخفاضًا من 24.7 جنيه للدولار، وحاليًا يتداول الدولار رسميًا عند سعر 30.8 جنيه للدولار، وبحسب تقديرات لصندوق النقد قد يتراجع الجنيه في نهاية مطاف قرار تحرير سعر الصرف الجديد إلى مستويات 36.83 جنيه، بينما توقعت وكالة “فيتش” نهاية ديسمبر الماضي أن يصل الجنيه رسميًا إلى مستوى بين 40 إلى 45 جنيهًا للدولار.

search