الخميس، 19 سبتمبر 2024

07:00 م

سقوط فستان الجونة

عندما تمتلك مجموعة من المهرجانات الكبرى المتخصصة سواء في الإعلام أو الدراما أو السينما فالأمر ليس فقط في التنوع المطلوب الذي تسعى أي دولة إليه، ولكن في الواقع أنت تملك طرفا مهما من أذرع القوة الناعمة التي تساهم في تشكيل الوعي وتوجيهه.. عندما تملك الفنون فأنت تسيطر على نسبة كبيرة من وعي الجمهور بل وقادر على التحكم فيه.

مهرجان القاهرة السينمائي.. مهرجان الإسكندرية.. مهرجان الدراما.. مهرجان الإعلام وغيرها من الأسماء الكبرى التي أسست للاحتفاليات بالفنون المتنوعة في مصر ومنها ما اكتسب الصبغة الدولية وأصبح علامة وواجهة رسمية على رأسها مهرجان القاهرة السينمائي.

يحرص القاهرة السينمائي دائما قبل الصورة الاحتفالية على جودة المحتوى السينمائي الذي يقدمه للتنافس على جوائزه سنويا حرصا منه كصاحب رسالة على تقديم رسالته الحقيقية على الأجواء الاحتفالية وهو ما صنع لنفسه به القيمة والثقل ليظل ما يقرب من نصف قرن صامدا يحتفظ بهيبته ونجاحه ووجوده واحترام الجميع له رغم كل التقلبات والأحداث التي تقع خصوصا الأسوأ منها.
 

جاء "مهرجان الجونة" منذ بداية إطلاقه وفي ظل مساحة التنوع باحثا عن المزاحمة وسط الكبار والتواجد بقوة بل والمنافسة أيضا وباعتباره مهرجانا خاصا كان الحشد له من كل الاتجاهات ليولد قويا وكبيرا وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ليبحث عن الصفة الدولية قبل تقديم أوراق اعتماده!
 

اعتمد "مهرجان الجونة" على مستوى الإبهار والتي تقوم ببطولته المطلقة هنا "الصورة" كسياسة رئيسية لجذب الأنظار وهو الهدف الأول الذي وضعه أصحابه واجتمعوا على تحقيقه بكل الأدوات الممكنة فالصورة أولا وبعدها يأتي أي شيء بعقلية تجارية بحتة تبحث عن الانتشار السريع والظهور اللافت ليستطيع المنافسة وخلق حالة من الجدل في صالح الانتباه له وتبقى "سيرته على كل لسان".
 

نجح "الجونة" في تحقيق ما أراده وخطط له وخطف الأنظار منذ الطلة الأولى وأصبحت صورته هي المسيطرة وانقضت الأعين كلها في اتجاه واحد فقط "فساتين الفنانات" التي جاءت بما قل ودل دلالات كبرى وأصبح الحديث الأول والثاني والثالث والعاشر عن الفنانات ومفاتنهن وفساتينهن.

وانحصرت المنافسة في مباراة للإثارة هي محط الاهتمام الرئيسي وخلفها زحام كثيف خلفه من بعيد تأتي الأفلام المشاركة في المهرجان المفترض أنه مهرجانها الرسمي إلا أن "مهرجان الجونة" ومنذ دورته الأولى قال كلمته واضحة إنه المهرجان الرسمي للفساتين.
 

ليس غريبا ألا تتذكر فيلما واحدا من الأفلام المشاركة في دورات "الجونة" إلا أصحاب الضجة فخصص المحفل مساحة صريحة للأعمال التي تسيء لصورة مصر وتطبع صورة ذهنية مشوهة بحجة الإبداع الفني المزعوم وهو التحكم في الوعي وخطورته السلاح الأخطر في المعارك المتقدمة لهدم البنية الأساسية للمجتمع فلا محتوى فني يقابل هذا البذخ ولا فعاليات لها قيمة.. الكل جاء لاقتناص صور الفنانات ببقايا فساتين.
 

ولأن المهرجان جاء بلا "بطانة" اختفى الهدف السينمائي الذي يحمل المهرجان صفته وتحول إلى "فاترينة" لعرض الفنانات في صورة مسيئة يتم تصديرها بدهاء.

انكشف "مهرجان الجونة" عندما قرر القيام بدورة خاصة بسبب الحرب على غزة فوسط تساقط الشهداء وبحور الدماء لم يكن هناك مجالا لاعتماد سياسته في الإبهار بالصورة وليس هناك أي مجال لأن تستعرض الفنانات أحدث صيحات الموضة من الفساتين فجاءت جميع الفنانات بفساتين تناسب الحالة متشحات بالسواد الأعظم.

وخصص المهرجان دورته لعرض ما يخص القضية من أعمال فنية مناصرة لها اعتمادا على اسم المهرجان الذي رأى أصحابه أنه قادر وحده "يشيل الليلة" فكانت الحقيقة العارية بمرور المهرجان مرور الكرام ولم يشعر به أحد.

وفي مقارنة مع دورة "مهرجان القاهرة السينمائي" التي أقيمت أثناء اختطاف الجماعة الإرهابية لحكم مصر وتحقيقها نجاحا كبيرا كان حديث القاصي والداني في ظل أسوأ وأسود فترة في تاريخ البلاد فإن النتيجة محسومة بـ "القاضية ممكن".

رغم أهمية فكرة تخصيص أعمال للقضية الفلسطينية فنيا وإنسانيا وقدرتها منفردة على الجذب إلا أن الدورة الاستثنائية فشلت فشلا ذريعا ولم تحقق أي مردود يذكر على أي مستوى فلم يكن هناك ما يجذب لمتابعته ككل دورة ولم تلهث خلفه الصحافة كالمعتاد ولا انتبه الجمهور من الأصل لوجوده حتى أن بعض المشاركين في هذه الدورة عبروا عن عدم فهمهم لما يحدث بها ولماذا تم إطلاقها من الأساس.
 

اعتمد "مهرجان الجونة" على أجساد الفنانات والمتاجرة بها وصنع بها اسمه وصورته العامة وصورته في الأذهان ليحقق المحفل ما أراده من أن يكون مثار الحديث الأول والمغناطيس الجاذب له ولكن عندما جاء وقت الجد وحان وقت الإبداع.. سقط "فستان الجونة" وانكشفت عورته ولم يجد من يستره حتى من "اللي ما يشتري وبيتفرج"!

دورة "مهرجان الجونة" الاستثنائية في نهاية 2023 بالفعل جاءت استثنائية لتثبت حاسمة أن الإبداع لا يمثله إلا الإبداع مهما كان.. ولا عزاء للفستان!

search