السبت، 12 أكتوبر 2024

10:23 م

حفيد النبي

يخترق صوت هاني الدقاق داخل موجات الراديو رجلا يبيع مستلزمات منزلية بسعر زهيد في عربات المترو.
هاني يغني: بس الأكيد لو كنتي أقرب ليا مني أو ما بيننا سنين فراق..، يقاطعه البائع: يلا باشا أي حجر ريموت بخمسة أي سلاكة سنان بخمسة، ينادي عليه مشترٍ في آخر العربة يصمت البائع يهرول نحو أكل عيشه، يفاوضه الرجل على شراء سلاكة أخرى بنصف الثمن بينما يرفض البائع بحجة أنها رخيصة لا تحتاج كل هذا العناء، ينزل البائع من العربة متوجها للعربة التي بعدها ليصعد بدلا منه رجلاً عجوز يرتدي بذلة أنيقة ممسكًا بجورنال الأهرام، يشبه الفنان حسن كامي يجلس جواري ويهمس في أذني دون سابق إنذار كأنه يبرر موقف ركوبه المترو: أصل أنا بحب اركن العربية واتحرك بالمترو في الزحمة
قلت: 
ولا يهمك نورت الطبقة تحت المتوسطة

أحمل ذكريات سيئة داخل محطة مترو أنور السادات، لاحظ الرجل تكشيرة خفيفة على جبهتي 
قال:
إنت إزاي تكشر في محطة الزعيم، افرد وشك وادعيله بالرحمة ده بطل 
لم أعره انتباهي، اكتفيت بابتسامة فارس نبيل امتطى حصانا خائنا.

صعد بائع آخر، ضاق صدري وفقدت تركيزي، أشم رائحة أعرفها جيدا 
أكرهها قدر ما أحببتها وأنفر منها قدر ما أردت الاقتراب أكثر 
قرأت ما تيسر لي من القرآن وذكرت كل ما أحفظ من الأذكار واستعنت بالمسبحة والصلاة على النبي وآل البيت، آملا ألا يقترب مني بائع العطور وألا يعرض عليّ تلك الرائحة بالإكراه، لم أجد مفرا من الهرب سوى النزول من تلك العربة، لكن ماذا لو ركضت ورائي تلك الرائحة.

لاحظ العجوز أنني متوتر حاول فض الاشتباك بيني وبين هذه الرائحة 
همس في أذني قائلا: متخافش هي مش هنا

قلت: 
حفيد النبي لا يخاف، يحاوطني الله وأوليائه إنها مجرد "كرشة نفس" أعيش وحيداً في شقة تشبه سجن المزرعة 
عنبر خمس نجوم، جيراني خالد بلحة، عمرو كباكا ومصطفى أبو الحديد، فرسان هذا الشارع ومقاومته الخارجة عن القانون
بلحة يحترمني، كباكا مدين لي بخدمة ومصطفى أبو الحديد يكرهني بشدة لكنه يخاف من "محمد عسكر" خالي الذي يسكن في العمارة المجاورة، أعتبره خط الدفاع الأول والهجوم إذا أردت، لا أحمل هم حارتنا تلك طالما "محمد عسكر" على قيد الحياة
لكن "أحمد سوبر" كان له رأي آخر، يعتقد أنني من المختارين، لي كرامات، يحذر أصحابه مني يحثهم على الابتعاد عن طريقي فقد سمعني ذات مساء ذو ظلام دامس عند عودتي من العمل أُطمئن طفلة صغيرة تجلس في خيفة على عتبة بوابة عمارتنا: متخافيش يا حلوة النور هييجي حالا، لم أنته من جملتي حتى سمعت " هييييه " ابتهاجا بوصول التيار بالسلامة.. اندهش "سوبر" قال بصوت مرتعش: 
الله ينور عليك يا باشا، أمشي يا بت روحي عند أمك ليحولك بطة ويتعشى بيكي، اختفت الطفلة واختفى سوبر وشكرني أحد المارين على إعادتي التيار الكهربائي مرة أخرى بفضل كراماتي

مر يومان حتى سمعت صوت طرق الباب 
- أهلا يا سوبر اتفضل 
يزيد فضلك يا باشا ممكن خدمة صغيرة ؟ 
- طبعا اتفضل 
ممكن تخلي البت عيشة ترجعلي..
- نعم ؟ بت مين وعيشة إيه؟ 
البت عيشة يا باشا.. البت عيشة إزاي مش عارفها أنت مقامك عالي وكراماتك واصلة وأنا عايزها ترجعلي. 
حاولت إقناع سوبر أن الوقت متأخر وبصمة العمل لا تعرف من هي عيشة ومن يكون سوبر وماذا تعني كلمة كرامات؟
لكن شيئا ما جعلني أتعاطف مع سوبر، هذا الشاب الذي كاد يفقد عقله من فرط الحنين وصدمة الفراق، كالعادة أهدي ضيوفي سجائر لأنني لا أشرب الشاي ولا أشتريه وأفضل احتساء قهوتي خارج السجن، حفيد النبي لم يعد يشرب قهوة منزلية الصنع منذ خمسة أشهر، نفخ سوبر دخان سيجارته في وجهي 
قائلا بصوت يملأه النحيب: يعني انت مش هتعرف ترجعلي عيشة يا باشا أصلها سابتني وأنا مكنتش عامل حسابي أنا فاكرها هتفضل موجودة معايا هي وعدتني يا باشا 
بدء تعاطفي يتحول لغضب، وددت صفع أحمد سوبر على وجهه حتى يرجع إلى صوابه لكن صفعة عيشة كانت كفاية…
سألته
بتحبها يا سوبر؟
أجاب بلهفة طفل رأى من بعيد لعبته المفضلة
إلا بحبها، عيشة كات حتة الملبن إللي بتحلي مرار الأيام، كوبايه الشاي إللي بعرف أظبط بيها دماغي، هي والحشيش واحد هما الاتنين كانوا بيخلوني مبسوط يا باشا، من يوم ما مشيت وأنا مزاجي متعكر، سوبر إللي كان ملك زمانه "عيشة"  بّلته وشربت ميّته 
ربت على كتف "سوبر"  بصمت وحزن مغلفان بنظرة لا تحمل أي شعور كطبيب يفكر كيف ينقل خبر وفاة مريض في غرفة العمليات لأهله 
بعدما ابتلعت ريقي 
قلت
"عيشة" تخطت موضوعك وتخطتك شخصيا أثناء وجودك وقبل أن تتركك، "عيشة" يا سوبر تعيش أحلى لحظات حياتها بدونك سعيدة وآمنة، تفكر في مستقبلها مع رجل آخر
اقتنع سوبر بأنني فعلا من المختارين وأن كراماتي أخبرتني بما تفعله عيشة في هذه اللحظة.
طلب مني أن أدعو له في ساحة الحسين عند زيارتي القادمة أن يتخطى "عيشة" ويرى في عيونها الندم ولو لليلة واحدة، طلب أن ينام عندي هذه الليلة فإنني أشعرته بالأمان الذي فقده منذ أن هجرته "عيشة" 
نام سوبر وهو يبكي على حصانه الخائن، نام جريحا بسلاحه، طلب أن يكمل هاني الدقاق غنوته الذي أطفأتها عندما طرق الباب
"روحك هتفضل طيف ملازم سكتي
غنوايه ساكنة في وحدتي 
عمري إللي لسا معشتهوش"

title

مقالات ذات صلة

search