
أمي.. "أمل محفوظ"
في عام 1994 كان جمهور القاهرة تحديداً ينتظر شخصية عادل إمام في فيلم الإرهابي بفارغ الصبر كان يوسف شاهين قد فرغ من إخراج فيلم المهاجر وكان محمد منير يردد آنذاك "لو بطلنا نحلم نموت" في هذه الأثناء كانت السيدة "أمل محفوظ" توضب أغراضها وتودع والدتها وأخواتها وتستعد للانتقال مع زوجها نحو مدينة ساحلية ذات طبيعة صحراوية يقال أنها جنة الله على أرضه والمستقبل كله هناك، كأي زوجة مسلمة مطيعة، رجلها على رجل زوجها "مكان ما يروح" تحرك الزوج حاملًا بعض الأمتعة وطفلة تبلغ من العمر عامين ومسبحة، تتكأ عليه زوجته تحمل بين أحضانها رضيعة ذات ٤ أشهر.
كان الخوف يحاصرها طول الطريق، يراودها شعور القلق والحيرة، تداهمها دموع وداع "حدائق القبة"
لكن "حمل الليالي خفيف لما يشيلوه اتنين".

وصلت السيدة أمل محفوظ مدينة العريش، تحمل بناتها وشيء من الخوف وبعض الصداع وشهادة الإعدادية
لا تملك من حطام الدنيا سوى ما ذكرت
عملت في مركز لمحو الأمية كانت تتعلم ما ينقصها وتُعلم ما ينقص الناس وترتضي بأجر زهيد لا يكلل مجهودها طوال اليوم، قد تكون لا تملك جنيهًا واحدًا وإن سألتها
معاكي فلوس ؟ ترد بكامل الثقة، آه معايا الحمدلله
مرت الأيام حتى قررت الالتحاق بالمدرسة الثانوية الزراعية
كانت تضطر للمشي حوالي ساعة ونصف للوصول لمدرسة داخل جبال العريش، ويكون اليوم، يوم عيد إذا مرت دورية الشرطة أو عربة تابعة للجيش يتعجبون لأمر امرأة تترجل وحيدة وسط رمال وجبال في شتاء قارص أو صيف حار قاصدة المدرسة الزراعية
يقدمون لها توصيلة مجانية متمنيين لها دوام التوفيق والسلامة
حصلت أمل على دبلوم الزراعة وتكلل سعيها بالعمل في إدارة الأمن بديوان محافظة شمال سيناء ومنها إلى مشرف فني زراعي بمديرية التربية والتعليم أسوة بزملاءها ولتشغل صميم تخصصها، كانت تتنقل بين المدارس حاصلة على دبلوم فقط، أزعجها كلام زميلتها بأنها حاصلة على بكالوريوس فمن حقها ما ليس من حق أمل، فقررت السيدة حمل نفسها والتوجه لمقر جامعة العريش، والتحقت بكلية العلوم الزراعية والبيئية
أمل في تلك المرحلة كانت أم لابنتين وولدين وزوجة وموظفة وطالبة جامعية
تنتهي من العمل وترجع سريعا لتحضير وجبة الغذاء كانت "سفرة هنية" دافئة، منظمة وجادة
لا تنتظر نهاية اليوم حتى ترمي نفسها على سرير التعب والإرهاق بل كانت تنتظر أن يهدء البيت ويخلد الجميع إلى النوم وتغوص داخل مذكراتها وأوراقها حتى يتسنى لها أن تبلي بلاءًا جيدا في الامتحانات المقبلة
لم يشعر الأولاد ولا الزوج بأي تقصير، كأن أمل ذات قوة خارقة تستطيع استنساخ نفسها في أكثر من مكان وإنجاز المهام بسرعة ودقة
كانت تستعد لحفل زفاف ابنتها الكبرى وكان امتحان آخر السنة بنفس الميعاد تقريبا
تقرر أمل أن تذاكر وتزوج ابنتها في آن واحد دون أن يشعر الجميع بنقصان شيء
حصلت على موافقة الجامعة بتأجيل امتحان هذه المادة من أجل حفل زفاف ابنتها، ونجحت أمل في هذه السنة بتقدير جيد
خلال أربع سنوات جهزت أمل بناتها وأعدتهم للزواج في أثناء دراستها بالجامعة ولم ترسب في أي سنة.
ظن ذويها أنها اكتفت من مشوار التعليم وأخذت بثأر قديم كان لا بد أن تأخذه حتى تتمكن من النوم، لكنها فاجأت الجمع بقرار إكمال الدراسة والتقدم للحصول على دبلومة عامة ودبلومة خاصة حتى يسمح لها أن تسجل لدراسة الماجستير في العلوم الزراعية والبيئية

ظن البعض أنه قرار ناجم عن سعادة التخرج والحصول على البكالوريوس لكن أمل لم تعط الظنون فرصة التوغل في عقول المحيطين وقامت بتسجيل رسالة الماجستير بكلية الدراسات العليا في مدينة بئر العبد بشمال سيناء طلبت العلا فعلًا وسهرت الكثير من الليالي
كانت تصمم على السفر مدة ساعة ونصف إلى ساعتين تحت سماء تمطر ثلجًا
اضطرت ذات مرة للمبيت في تلك المدينة، كان الجيش يداهم بؤرة إرهابية بالقرب من الكلية لم يستطع أحد الدخول أو الخروج، ظلت تدعو لنصرة الجيش والعودة لأبنائها سالمة لأنها لا تعرف من سيطعم أبناءها ويهتم لأمرهم من بعدها وقت حرب مصر على الإرهاب
عاصرت أمل أحداث الحرب من أول رصاصة حتى أصبح الدار أمان
واصلت مسيرة كفاحها حتى حصلت رحاب على بكالوريوس التربية وترتيب العشرة الأوائل والعمل بمديرية التربية والتعليم وحصلت هبة على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس والعمل كمحامية حرة وحصل أحمد على بكالوريوس الإعلام من جامعة سيناء والعمل كصحفي تليفزيوني بموقع تليجراف مصر والتحق محمد بكلية الآداب قسم هندسة المساحة
أمل أم لأربع أولاد وجدة لخمس أحفاد
استطاعت السيدة أمل محفوظ تتويج حلمها بالحصول على درجة الماجستير عن عمر يناهز 54 عام، لا تختلف أمل عن الأبطال الخارقين فهي مثلهم تماماً، تستطيع التحليق.

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
"الحسد جابلهم المرض".. أم تناشد لإنقاذ طفليها بزراعة قلب (فيديو)
09 ديسمبر 2024 01:17 ص
"حديد عز" تقرر الشطب الاختياري من البورصة المصرية
08 ديسمبر 2024 02:27 م
سعر الدينار الكويتي اليوم السبت 23 نوفمبر 2024
23 نوفمبر 2024 07:40 ص
معركة حفيد النبي
30 أكتوبر 2024 09:36 م
أكثر الكلمات انتشاراً