
مدلس أول | خارج حدود الأدب
"أ ل م" – تفسير ستسمعه لأول مرة لهذه الآية الكريمة؛ في غمار رحلتي اليومية نحو اللاشيء، تلك الرحلة التي تشاركني فيها يا صديقي دون أن تدري، شئت أم أبيت، حين تمسك بدفة هاتفك، لتبحر في يمّ منصات التواصل الاجتماعي، حيث تتقاذفك أمواج الفيديوهات والمنشورات والصور والتصريحات، أمواج عاتية تتلاطم بشدة، لتصيبك بدوار محتوم، دوار تدمنه بنفس القدر الذي يرهقك، ويمتعك مهما تقززت منه. وعلى الرغم من هذا التناقض، نواصل الرحلة، بل ونكررها يوميًا.
أعود لنقطة البداية: "أ ل م". هذه الآية الكريمة طالما شكلت لي لغزًا عظيمًا يستعصي على الحل، رغم إيماني بأن وراءها حكمة أعظم. وربما تكون الرغبة العارمة في فك رموز هذا اللغز هي ما يدفعني دائمًا إلى قراءة أو متابعة أي مقال أو منشور يتحدث عن هذه المعجزة واللغز اللغوي.
وحينما رأيت خلال رحلتي المذكورة فيديو يحمل العنوان: ("أ ل م" – تفسير ستسمعه لأول مرة لهذه الآية الكريمة)، وكان مقدّم الفيديو ذا لحية كثيفة تكاد تقطر علمًا، فتحت الفيديو فورًا وأنا في غاية الإنصات.
كانت الرغبة واللهفة في إيجاد معلومة أو قطعة جديدة تساعد في حل أحجية تلك الآيات تغمرني.
وبعد مقدمة طويلة استمعت إليها مرغمًا، أتى الجزء الحاسم، حينما تساءل صاحب المقطع: ترى! لماذا لم يسأل الصحابة النبي وهو بين ظهرانيهم عن معنى هذه الآية؟ "أ ل م" تلك الحروف التي تفتتح سورة البقرة، بالتأكيد لو كانت محل جدل أو استفهام، لكان الصحابة أول وأولى الناس بسؤال النبي عن معناها أو تفسيرها، وهم من سألوه في كل أمور دينهم ودنياهم؟ حقيقة، تساؤل منطقي.
وهنا يفحمنا بتفسيره "المبتكر"، ومن القرآن ذاته، حينما وجّه خطابه إليّ كمشاهد، ليلومني قائلاً: "لقد نسيت قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]، وإن كنت أنا قد نسيتها، فبالتأكيد لم ينسها الصحابة." ثم انتقل إلى مرحلة جديدة من خطابه إليّ، حينما أصرّ على التشكيك في إيماني وعقلي وقدراتي لمجرد أنني أبحث عن إجابة لهذه الأسئلة، في دعوة صريحة للحجر على العقول والأفكار.
فانصرفت عن الفيديو غاضبًا أتفكر: هل حقًا كان بحثي وشغفي بمعرفة معاني تلك الآيات محض جهل وجحود؟ وحينها خطر لي تساؤل أعمق: هل فعلًا سبق نزول الآية الكريمة من سورة المائدة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ نزول "أ ل م" افتتاحية سورة البقرة؟ كانت معلوماتي السابقة تنفي ذلك، وببحث بسيط استغرق عشر ثوانٍ فقط، اكتشفت أن الفارق الزمني بين الآيتين بالفعل سنوات عديدة لصالح افتتاحية سورة البقرة. فكيف امتثل الصحابة لآية لم تنزل بعد على النبي؟
الخلاصة: أنني وقعت في فخ التدليس من جديد، ولكن هذه المرة في الدين! ولمَ لا؟ وقد أصبح التدليس هو النهج الثابت لتلك المنصات، وهو الطريق الأسهل لركوب "الترند" وتنشيط التفاعل.
فلا تكاد تمضي بضع دقائق حتى تجد معلومات وهمية، أو تصريحات مفبركة، أو أخبارًا مغلوطة. فهذا يزعم أن خل التفاح علاج للسمنة والسكري والضغط والبواسير، وذاك ينسب تصريحًا مفبركًا لإعلامي أو لاعب أو سياسي، وآخر ينشر خبرًا لا يستند إلى أي واقع، فقط لإثارة المشاعر والتفاعل، أو للتضليل أو الافتراء. وفي المجمل، كل ذلك يقع في حيز التدليس.
وعلى الرغم من دناءة التدليس في حد ذاته، إلا أنه في إطار الأشخاص والصفحات الشخصية، قد تكتفي بإلغاء المتابعة. أما إن وصل التدليس والتزييف المتعمد إلى أكبر وأعرق المؤسسات الإخبارية في العالم، فتلك هي الطامة الكبرى. فقد تابع العالم بكثير من الدهشة ما نشرته وكالة رويترز الإخبارية عن تصريحات ملك الأردن أثناء زيارته للولايات المتحدة الأمريكية، وكيف تم تدليسها – ربما عن عمد – وعلى الرغم من الاعتذار عنها وحذفها وتصحيحها فيما بعد، إلا أنها تظل واحدة من حوادث التدليس التي لا تُغتفر.
وفي ذات الإطار، وضعت منصات التواصل العديد من المعايير لتقييد نشر المحتوى المعادي لدول أو حكومات أو جهات بعينها، وبلغت في ذلك من الغلو ما وصفه البعض بقمع الحريات والآراء. وهنا أتساءل: أليس الأجدر تقييد ذلك التدليس وتلك المعلومات المغلوطة من الانتشار؟
فلربّ معلومة خاطئة تودي بحياة شخص ما، كل ذنبه أنه وثق في المنصة وفي صاحب المعلومة. وعلى المستخدم أن يتحرى ويتحقق قبل أن يصدق، بل لا بد أن يضع قاعدة: أغلب ما يُنشر تدليس حتى يثبت العكس، فهذا من فطنة الإنسان وحسن تدبيره في مواجهة هذا الكم من التدليس.
أما صديقي المدلس الأول، صاحب فيديو التفسير، فسأكتفي بما قلته عنك، ولن أجعل تعليقي عليك هنا – كما تستحق – "خارج حدود الأدب".

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
محمد سامي و"حرمه" مي عمر .. حكايات زوجات العاملين
16 فبراير 2025 11:06 م
تقديس إبليس | خارج حدود الأدب
06 فبراير 2025 09:48 م
خارج حدود الأدب| إدارة الخطيب.. بين التهليل والتضليل!
27 يناير 2025 12:50 م
عماليق غزة | خارج حدود الأدب
16 يناير 2025 04:23 م
أكثر الكلمات انتشاراً