
حينما (سارتر) مصطفى غريب في رمضان | خارج حدود الأدب
"الحرب بدأت"، هكذا عنونت صحف فرنسا أعدادها في صباح الثالث من سبتمبر عام 1939م، بعد يومين من الاجتياح النازي لبولندا، وأعلنت فرنسا التعبئة العامة استعدادًا لهجوم ألماني محتمل. ووسط جموع المُجندين، كان "جان بول سارتر" قد جُند كخبير أرصاد جوية في الجيش الفرنسي. وفي 10 مايو 1940، بدأ هتلر غزو فرنسا عبر بلجيكا وهولندا، وبعد معركة خاطفة استمرت نحو ستة أسابيع فقط، استسلمت فرنسا في 22 يونيو 1940. وفي الشهر نفسه، وقع "سارتر" في براثن أسر القوات الألمانية، وزُج به في السجن لتسعة أشهر، كانت عصيبة، بما تخللته من معاناة لرجل كان من رجالات الأدب والفلسفة المعدودين في فرنسا، كمخاض نتج عنه ولادة واحد من أهم أعماله الأدبية: مسرحية "الذباب".
وفي مارس 1941، بعد أن قام أحد أطباء السجن الألمان بتزييف شهادة صحية لسارتر في ظروف غامضة، خرج من السجن وقلبه يتأجج بلهيب المقاومة. خرج من الأسر باحثًا عن الحرية، ليجد الشعب الفرنسي كله فريسة في أغلال الأسر. ولم يكن الاحتلال سجانه الوحيد، بل كان الذل والهوان والاستسلام والشعور بالذنب: ذنب الخيانة، ذنب العمالة، ذنب الخنوع. كان الشعب الفرنسي يتآكل من الداخل، ليس فقط بفعل جرائم الاحتلال.
كان لا بد لسارتر أن يقاوم، وبالفعل، في 3 يونيو 1943، وعلى خشبة مسرح "ساراه برنار" في باريس، كان العرض الأول لمسرحية "الذباب"، حيث لم يكن المحتل في ذلك الوقت يدرك ما تحتويه تلك المسرحية من فلسفة وترميزات وضعها سارتر بعناية. فقد كانت المسرحية محاكاة لأسطورة "إلكترا" الإغريقية، ودعوة مفتوحة للشعب الفرنسي للثورة، الثورة على الشعور بالذنب، الذي رمز له سارتر في مسرحيته بالذباب، دعوة للثورة على الظلم والذل والهوان والاستسلام، دعوة للمقاومة والحرية. كانت المسرحية كحجر أُلقي في مياه الاستسلام الراكدة، لتحرك أمواج المقاومة، قبل أن تفطن سلطات الاحتلال لمعاني المسرحية وتمنعها.
كان هذا هو الدور الحقيقي للأدب والفن في بناء الأمم والحضارات ونهضتها. وبالطبع، كان "جان بول سارتر" من رواد الأدب والفلسفة، ذلك الرجل الحائز على جائزة نوبل للأدب - رغم أنفه - عام 1964. نعم، فقد رفض استلامها خوفًا من التأثير على آرائه واتجاهاته.
وفي هذا الموسم الدرامي الرمضاني، بعد 45 سنة على وفاة "جان بول سارتر"، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بمشهد من تمثيل الفنان الكوميدي الموهوب "مصطفى غريب"، نجم مسلسل "أشغال شقة جدًا"، يتحدث عن هذا الفيلسوف والأديب في إطار فكاهي للغاية، زاعمًا أنه أول من اخترع تحليل البول. وعلى الرغم من بُعد تلك المزاعم عن الحقيقة، إلا أنه وضع بؤرة ضوء بديعة على هذا الأديب الكبير، ووجه دعوة للمشاهدين للبحث عن تاريخه وإنجازاته. ويحسب هذا بالتأكيد لصناع العمل ولهذا الكوميديان الشاب المجتهد. ولعل هذا المسلسل يكاد يكون، وللمصادفة، واحدًا من المسلسلات التي تكاد تُعد على أصابع اليد الواحدة، والتي تحمل بصيص إبداع.
ولما كان استهلالنا لهذا المقال بالدور العظيم للفن والأدب في نهضة الشعوب وتقدمها، نجد، على خلاف ذلك، وبشهادة الجماهير والنقاد وحتى مسؤولي الدولة، أن مستوى ما تقدمه الدراما في مصر ينحدر بسرعة الصاروخ. فلا يرى أبطالًا أو نماذج إلا البلطجية والمجرمين والعوالم. وكيف لأمة أن ترتقي وشاشتها تعج بمشاهد لا تلامس الواقع، بل تدنسه، ولا تستشرف المستقبل، بل تجهضه؟ مشاهد، بل مسلسلات، لا تروج إلا للقُبح، والقُبح عن مجتمعاتنا بعيد كل البعد.
فوسط العشرات من الأعمال التي تعج بها الشاشات في رمضان، لا تكاد تميز سوى أعمال معدودة، ربما لا تحمل رسالة أو تواجه قضية، بل على الأقل تشتم منها رائحة الإبداع. وعلى عكس ما يشاع، لا تقع المسؤولية في ذلك على ذوق المشاهد، ولا على الجهات الرقابية، ولا على الدولة بالتأكيد، بل تقع، في الجزء الأكبر منها، على المبدعين والمنتجين. فلا يجب عليهم إتاحة المجال لأنصاف المخرجين أو الممثلين بالصدفة أو الواسطة ليحتلوا الشاشات. فبدلًا من إنتاج هذا الكم من الفشل، لماذا لا نكتفي بعدد أقل، ولكن نجعل فيه من الإبداع ما يعيش ويبقى؟ فالإبداع والفن والأدب مهمة حضارية، يحمل شعلتها من يقدر عليها ويستحقها، ليخلد ذكره التاريخ. فبعد عشرات السنين، يأتي هذا الممثل الشاب على ذكر "جان بول سارتر" ليعيد اسمه من جديد إلى الواجهة بإبداعه وإرثه الأدبي. كذلك يحيا ذِكر المبدعين عبر التاريخ، ليس بشطحاتهم "خارج حدود الأدب".

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
الشيخ - باسم - حسني.. خارج حدود الأدب
19 مارس 2025 11:08 م
طابونة "ابن أبو ريدة" وصبيانه | خارج حدود الأدب
14 مارس 2025 01:45 م
مدلس أول | خارج حدود الأدب
23 فبراير 2025 12:19 م
محمد سامي و"حرمه" مي عمر .. حكايات زوجات العاملين
16 فبراير 2025 11:06 م
أكثر الكلمات انتشاراً