الجمعة، 18 أبريل 2025

09:56 ص

سامح مبروك
A A

(زيادة) ناقصة .. و(غالي) رخيص | خارج حدود الأدب

"لقد فعلوها" — هكذا عنونت مجلة "الإيكونوميست" الإنجليزية عددها الخاص في صباح العاشر من يونيو عام 1967 احتفالًا بالنصر الإسرائيلي على العرب في حرب الأيام الستة، ولم تكن الفرحة تقتصر على المجلة فقط، بل كان في مقدمة صفوف المحتفين بهزيمة العرب شاب مصري يقيم في لندن يُدعى "وجيه غالي"، ابتهج لدرجة أنه ذهب لرصد أجواء هذا الانتصار اليهودي من قلب تل أبيب.

وجيه كان شابًا مصريًا ربما لم تغرس نشأته في مصر بقلبه بذور الوطنية، بل كانت البراجماتية أسرع وأمضى في استقطابه إلى طيات التيارات الشيوعية واليسارية، وسرعان ما ترك مصر وذهب لمطاردة أحلامه وتطلعاته في أوروبا، فعانى فترة من التشرد في الدول الأوروبية ليصطدم بالنظرة الاستعمارية الاستعلائية ضد الملوّنين من خارج القارة العجوز. وعلى الرغم من ذلك، بادر بتقديم فروض الولاء لموطنه الجديد بدعمه التام لإسرائيل في حربها ضد العرب والمسلمين.

ووسط ذلك الاغتراب الجغرافي والأيديولوجي العميق، بحث عن السكن في مرافقة فتاة يهودية من أصول مصرية اسمها "أدنا"، تلك العلاقة التي تحدث عنها في روايته الوحيدة "بيرة في نادي البلياردو"، ولكن هذه العلاقة لم تُكلَّل بالنجاح الذي كان يرجوه.

وكانت هذه الرواية هي طوق نجاته الحقيقي من حياة التشرد التي عانى منها، فقد كانت الجسر الذي أوصله إلى "ديانا أثيل"، كاتبة السير الإنجليزية التي كانت تكبره بقرابة عشرة أعوام، ودخل معها في علاقة نفعية بحتة حسبما وصفتها السيدة نفسها، فقد كانت هي العائل والداعم الوحيد له في ظل بطالته شبه الدائمة.

وفي عام 1967، كانت ديانا قد وفرت لوجيه فرصة العمل كصحفي حر يتعامل مع صحيفة "التايمز الإنجليزية". وبعد نكسة 67، قرر وجيه — مستغلًا وظيفته — الذهاب إلى تل أبيب لاستطلاع أصداء الحرب من هناك بعيون مصرية كما زعم، ليرقص منفردًا على جثث الشهداء من أهله.

وكان له ما أراد من صخب في أوروبا، والسخط كل السخط بالتأكيد في مصر، وفي عام 1968 أُعلن تجريده من جنسيته المصرية. ولم يحصد وجيه بعد ذلك من زيارته ما توقعه من نفع، بل لم يجنِ سوى العار والاكتئاب الحاد، مما أودى بحياته في النهاية حينما تناول جرعة زائدة من الحبوب المهدئة أردته منتحرًا في الخامس من يناير عام 1969.

ولم يكن غالي حالة فردية أو فريدة في ذلك الإطار، بل إن التاريخ يعج بالعديد من حالات التي تغلب عندها كفة المال والشهرة والسلطة عن كفة الوطن؛ فقد يتمرد الفرد على قوميته وأيديولوجيته طمعًا في مكانة أو منحة أو منفعة. وبعد عقود من استمرار الصراع العربي الإسرائيلي الذي أفرز العديد من الشخصيات على شاكلة غالي من الجانبين، تتصدر المشهد اليوم فتاة تُدعى "زيادة"، وربما لا يحمل قدرها من اسمها إلا ضده، تمامًا وللمصادفة كغالي، الذي لا يمثل من لقبه إلا العكس تمامًا.

زيادة ما هي إلا نقصان في الثقافة والتعليم والإيمان؛ زيادة حالة براجماتية ناقصة النضوج، لأن مؤسس البراجماتية والميكافيلية ذاته لم يُدنّس قوميته وانتماءه ولم يخن وطنه يومًا. زيادة كالحشرة التي شدهتها الأضواء الساطعة، لتجد من ورائها مصيدة، تتهوهم التقدير والاحترام من أصدقاءها على الطرف الأخر وما هو إلا غطاء لكثير من الاحتقار، النماذج كزيادة تتغذى على الصخب المحيط بها؛ فهو يخلق تلك الهالة من التفرد المزعوم حول شخصياتهم الناقصة والرخيصة، وهذا الصخب هو الوقود الذي يحترق ليحرك عجلة الشهرة والأموال والسلطة. لذلك، فإن تجاهل تلك النماذج والإعراض عنها — حتى لو التفت من حولهم الآلاف من ميكروفونات الطرف الآخر — سيفقدهم أهم أسلحتهم، وهو زعزعة عقيدة المجتمع.

زيادة وغالي هما وجهان لعملة واحدة رخيصة، قد يتداولها البعض في وقت معين، قد تحقق بعض المكاسب المادية على المدى القصير، ولكنها سرعان ما تصدأ لتكشف عن معدنها الحقيقي، ويظهر الخبء فيها من دنس ورجس لا ينال إلا أصحابه، وطالما الوطن قائمًا عزيزًا شامخًا وطالما الأرض صامدة في يد أصحابها يقاومون ويدافعون عنها، سيظل الكلاب والذئاب للأبد يرقصون على جثث الشهداء، ورحى التاريخ بالتأكيد لن ترحم ناقصة أو رخيص، بل ستلفظهم وأمثالهم "خارج حدود الأدب".

search