
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الرقمية
قبل أكثر من سبعين عامًا، جلس ممثلو الدول في قاعة أنيقة بالأمم المتحدة، وقرروا أن البشر يستحقون شيئًا لطيفًا اسمه "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان". كانت الفكرة عبقرية وقتها، لا أحد يحق له أن يسلب منك حريتك أو كرامتك، ولا يجوز أن تُعامل كأنك مجرد رقم في قوائم أي حكومة أو مؤسسة.
المشكلة الوحيدة أن أحدًا لم يخبرهم أن المستقبل سيحمل نوعًا جديدًا من القمع، ليس عبر السجون أو المنافي، بل عبر "شروط الاستخدام" التي لا يقرأها أحد قبل أن يضغط موافق.
في الماضي، كانت وسائل الحدّ من حرية التعبير تشمل الرقابة التقليدية أو القيود المفروضة على النشر في وسائل الإعلام. أما اليوم، فقد أصبحت بعض المنصات الرقمية تمتلك صلاحيات واسعة في إدارة المحتوى، حيث يمكنها تعليق الحسابات أو إغلاق القنوات بناءً على سياساتها الداخلية، دون توضيح كافٍ للأسباب أو المعايير المستخدمة في اتخاذ هذه القرارات.
لنفترض أنك تعمل كمستقل على الإنترنت، تصنع محتوى، تبيع منتجات، أو حتى تكتب مقالات مثل هذا. في يوم من الأيام، تستيقظ لتجد أن حسابك قد تم تعليقه، وكل أعمالك تبخرت، لأن "الخوارزمية" قررت أنك قمت بشيء خاطئ. تحاول الاعتراض؟ لا رد. تبحث عن رقم هاتف لخدمة العملاء؟ لا يوجد. تجرب إرسال بريد إلكتروني؟ الرد الآلي يخبرك "نأسف، لا يمكننا استعادة حسابك في الوقت الحالي".
هذا ليس كابوسًا، هذا الواقع الذي نعيشه. إذا سرقك بنك، يمكنك مقاضاته. إذا طردك صاحب العمل دون سبب، يمكنك رفع دعوى قضائية. لكن إذا حذفت إحدى الشركات الرقمية حسابك؟ أنت في عداد المفقودين رقميًا، ولا أحد يسمعك سوى شاشة الكمبيوتر التي توضئ أمامك بلا مبالاة.
في العالم الواقعي، هناك لاجئون يفرون من الحروب والكوارث. أما في العالم الرقمي، فهناك لاجئون طُردوا من منصاتهم دون سابق إنذار، يبحثون عن بيئة رقمية جديدة تمنحهم حق "الوجود".
تخيل أن صديقك بنى إمبراطوريته الخاصة على "يوتيوب"، ثم قررت المنصة أنه غير مرحب به بعد الآن لأنه "أخل بمعايير المجتمع". أي مجتمع هذا؟ لا أحد يعرف! ربما هو مجتمع أشباح يقيم في دهاليز الإنترنت المظلمة، وربما هو مجلس غير منتخب من خوارزميات بلا قلب. الأكيد أن صديقك الآن بلا هوية رقمية، يبحث عن منصة جديدة تمنحه حق "اللجوء الرقمي"، دون أن يجد سفارة تمنحه تأشيرة. هل هناك "مفوضية عليا لشؤون الحسابات المحذوفة"؟ لا، لأن الشركات الكبرى لا تعترف بحقوقك، بل تعترف فقط بما يجلب لها أرباحًا.
ربما حان الوقت لأن نجلس جميعًا ونكتب وثيقة جديدة "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الرقمي"، وثيقة تضمن أن المستخدمين ليسوا مجرد أرقام في قواعد بيانات الشركات، بل أشخاص لهم حقوق رقمية واضحة.
يجب أن تشمل هذه الوثيقة حق التملك الرقمي، بحيث يكون ما يشتريه المستخدم عبر الإنترنت ملكًا له فعليًا، وليس مجرد "رخصة استخدام" يمكن سحبها في أي لحظة. كما ينبغي أن تضمن حق الاعتراض والاستئناف، بحيث لا يكون قرار حذف الحساب أو منع النشر تعسفيًا أو خاضعًا لحكم خوارزمية غامضة، بل يحق للمستخدم معرفة السبب والاستئناف أمام جهة مستقلة، وليس مجرد "روبوت" آلي لا يسمع ولا يجيب. كذلك، يجب أن يُكفل حق التنقل الرقمي، بحيث يتمكن الأفراد من نقل بياناتهم وأعمالهم إلى أي منصة أخرى بسهولة، دون أن تتحكم شركة واحدة في مصيرهم الرقمي. وأخيرًا، لا بد من حق الخصوصية الحقيقية، الذي يضع حدًا لجمع بياناتنا دون إذن، ويوقف بيع معلوماتنا للمعلنين كما لو كنا سلعًا في متجر رقمي..
هل سيحدث هذا قريبًا؟ لا تراهن على ذلك، فالشركات الرقمية الكبرى ليست جمعيات خيرية، والقوانين ما زالت متأخرة بعشرات السنوات عن الواقع. لكن حتى يأتي هذا اليوم، تذكر القاعدة الذهبية "أنت لا تملك شيئًا في العالم الرقمي، بل تستأجره… وعندما تقرر الشركة طردك، لا يوجد مكان تلجأ إليه." أما إذا كنت تنتظر ظهور "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الرقمي" قريبًا، فلا ترفع سقف توقعاتك… لأنك في عالم تتحكم فيه الشركات، وليس الشعوب.
فالإنترنت كان حلمًا بالحرية، لكنه تحول إلى ساحة معركة بين المستخدمين والشركات. وحتى نرى يومًا تُكتب فيه "حقوق الإنسان الرقمي" في وثيقة رسمية، سنبقى جميعًا تحت رحمة "إرشادات المجتمع" التي لا يعرفها أحد… إلا حين يطرد بسببها.

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
الأمم المتحدة: حكم المباراة بلا صفارة
26 مارس 2025 03:40 م
إردوغان وإمام أوغلو.. القصة التي لا تنتهي
20 مارس 2025 04:12 م
النصب بنكهة رقمية: كيف تسرقك التكنولوجيا وأنت تبتسم؟
08 مارس 2025 03:20 م
مجرد رأي: هل يجب الاستعانة بعمرو موسى الآن؟
22 فبراير 2025 03:06 م
أكثر الكلمات انتشاراً