الإثنين، 31 مارس 2025

02:34 ص

إردوغان وإمام أوغلو.. القصة التي لا تنتهي

في تركيا، السياسة ليست مجرد لعبة مصالح، بل دراما مفتوحة على كل الاحتمالات، فالحكاية تبدأ بانتخابات، تمر بحكم قضائي، وتنتهي - مؤقتًا- باعتقال. إردوغان، الذي يجلس على العرش منذ عقدين، يعرف أن السياسة لا تحتمل الفراغ، وإمام أوغلو، الذي هزَّ عرش الرجل القوي بفوزه في إسطنبول، يعرف أن الصعود في تركيا ليس مجرد انتصار في صندوق الاقتراع، بل معركة ممتدة حتى النهاية. 

الخطأ الذي لا يُغتفر عندما فاز أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول عام 2019، لم يكن مجرد انتصار انتخابي عادي، بل زلزال سياسي. إسطنبول ليست مجرد مدينة، بل "التاريخ الذي يصنع السياسة". وإردوغان، الذي بدأ صعوده السياسي منها، يدرك جيدًا أن من يحكم إسطنبول، يملك نصف الطريق إلى القصر الرئاسي. ولذلك، لم يكن غريبًا أن يخوض الرجلان مباراة سياسية طويلة الأمد، حيث تُستخدم فيها كل الأدوات: صناديق الاقتراع، المحاكم، وأخيرًا، السجون.

لفهم سبب اعتقال إمام أوغلو، لا بد أن نعود إلى الجغرافيا قبل السياسة، إسطنبول ليست مجرد مدينة، بل إنها العاصمة غير الرسمية لتركيا، وميزان القوى الحقيقي في البلاد، أكثر من 16 مليون نسمة، واقتصاد يضاهي دولاً بأكملها، ونفوذ يتجاوز حدود البلديات ليصل إلى قلب السياسة الوطنية. لا أحد يعرف ذلك أكثر من رجب طيب إردوغان.

في عام 1994، عندما فاز بمنصب رئيس بلدية إسطنبول، كانت تلك اللحظة التي أطلقت صعوده إلى القمة، وفي 2019، عندما فاز إمام أوغلو بالمنصب نفسه، أدرك إردوغان أن التاريخ قد يعيد نفسه، لكن هذه المرة ليس لصالحه. لذلك، لم يكن غريبًا أن تصبح انتخابات إسطنبول الأخيرة معركة شخصية بين الرجلين.

إمام أوغلو لم يكن يومًا شخصية عادية. ففي 2019، حينما قرر سكان إسطنبول أن يمنحوه أصواتهم، لم يكن ذلك مجرد تصويت لرئيس بلدية، بل كان تصويتًا على حق تركيا في التنفس خارج عباءة الرجل الواحد. وعندما قرر أردوغان إعادة الانتخابات، بحجة لم تقنع حتى أعضاء حزبه، كانت النتيجة أشد وقعًا، حيث فاز إمام أوغلو مجددًا، وبفارق أكبر!

لكن، في تركيا، القضاء يعرف طريقه دائمًا عندما يتعلق الأمر بالمنافسين السياسيين. في 2022، صدر حكم بسجن إمام أوغلو وحظره من العمل السياسي بتهمة "إهانة المسؤولين"، وهي التهمة التي يمكن أن تطبق على أي شخص لم يصفق كفاية في الوقت المناسب. ومع ذلك، ظل الرجل متصدرًا للمشهد، فكان لا بد من خطوة أخرى، وهي "الاعتقال".

السؤال ليس "لماذا تم القبض على إمام أوغلو؟" بل "لماذا الآن؟". الإجابة واضحة كوضوح الشمس في يوم صيفي بإسطنبول؛ فالانتخابات الرئاسية على الأبواب، وأردوغان يعلم أن إسطنبول هي البوابة الرئيسية لأي تغيير سياسي، إمام أوغلو لم يكن فقط رئيس بلدية، بل كان مشروعًا سياسيًا قابلاً للنمو، ورجلاً قادرًا على كسر احتكار السلطة.

الأمر لا يحتاج إلى عبقرية تحليلية، كل الأنظمة التي تخشى الصناديق، تبدأ بمحاصرة المنافسين قبل أن يبدأ السباق. لكن المشكلة أن بعض المنافسين كلما حاصرتهم، زاد حجمهم في عيون الناس. إمام أوغلو لم يعد مجرد سياسي، بل أصبح رمزًا لقوة المعارضة، والآن، بفضل هذه الخطوة، قد يتحول إلى أيقونة سياسية تتجاوز إسطنبول إلى عموم تركيا.
إردوغان الذي كان ضحية القمع السياسي في التسعينيات، صار اليوم من يستخدم نفس الأدوات ضد خصومه. فهل يعتقد أن التاريخ لا يملك ذاكرة؟ أم أن ذاكرة التاريخ تُعاد كتابتها بأوامر رسمية؟ لكن الواقع يقول إن إسطنبول لم تسقط يومًا بسهولة. المدينة التي أسقطت إمبراطوريات، وأسقطت حزب العدالة والتنمية من عرشها، قادرة على صنع مصيرها من جديد. قد يكون إمام أوغلو في قبضة الشرطة اليوم، 
لكن السؤال الآن: هل سيكون اعتقال إمام أوغلو مجرد فصل جديد في الدراما التركية، أم بداية لتحوّل سياسي جديد؟ الجواب سيأتي من صناديق الاقتراع.. إذا ما بقي هناك انتخابات أصلاً!

search