
الأمم المتحدة: حكم المباراة بلا صفارة
في إحدى زوايا العالم، حيث تُصاغ القرارات بأفخم العبارات وتُلقى الخطب وسط تصفيق حار، هناك مؤسسة دولية وُلدت من رحم الحروب الكبرى، واعدةً بجعل العالم أكثر عدلاً. اسمها الأمم المتحدة، لكنها في بعض الأحيان تبدو كما لو كانت “الأمم المنقسمة”. فبينما يراها البعض الملجأ الأخير للضعفاء، يراها آخرون مجرد نادٍ سياسي فاخر، حيث يجتمع الكبار ليقرروا مصير الصغار.
في عالم كرة القدم، يملك الحكم صافرة توقف اللعب عند حدوث خطأ، لكن في عالم السياسة الدولية، مجلس الأمن أشبه بحكم لا يملك تلك الصافرة، بل عليه أولًا استئذان اللاعبين قبل اتخاذ أي قرار.
والأسوأ، أن بعض اللاعبين الكبار يملكون الحق في إلغاء أي قرار لا يعجبهم، فقط برفع إصبع واحد.. يسمونه الفيتو، لكنه في الحقيقة أشبه بمسدس صوتي يُستخدم لتخويف الجميع دون إطلاق رصاصة واحدة. خذ مثالاً بسيطًا؛ حينما اندلعت الحروب في فلسطين، وسوريا، والعراق، واليمن، وأوكرانيا، اجتمع المجلس، تحدثوا، أدانوا، طالبوا بضبط النفس، ثم ذهب كل منهم لتناول العشاء.
أما الضحايا، فقد بقوا في نشرات الأخبار، يتنقلون بين شريط الأخبار العاجلة ورفوف الأرشيف، لكن إذا كانت هناك قضية تكشف بوضوح عجز الأمم المتحدة، فهي حرب غزة المستمرة. فإسرائيل، المدعومة بحماية مطلقة من بعض القوى الكبرى، تمضي في عدوانها دون اكتراث لأي قرارات أو إدانات دولية. قصف المنازل، استهداف المستشفيات، تدمير البنية التحتية، وجرائم حرب موثقة بالصوت والصورة، ولكن ماذا يحدث في نيويورك؟ اجتماع بعد اجتماع، كلمات جوفاء، بيانات إدانة “عميقة القلق”، بينما يستمر العدوان كما لو كان محصنًا ضد أي شكل من أشكال المحاسبة.
ثم هناك المحكمة الجنائية الدولية، التي يُفترض أنها صوت العدالة في العالم، تصدر مذكرات توقيف ضد رؤساء، لكنها لا تستطيع إلقاء القبض على أحد. ففي حالة إسرائيل، ورغم إصدار المحكمة مذكرة توقيف بحق بنيامين نتنياهو ومسؤولين آخرين بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة، لم يتحرك المجتمع الدولي لتنفيذها. يبدو أن العدالة لا تقف فقط على الأدلة، بل أيضًا على إرادة الدول في فرضها. فكما كان الحال مع قادة آخرين في الماضي، تبقى مذكرات التوقيف حبراً على ورق ما لم تتحول إلى أفعال حقيقية.
أما عن لجان التحقيق، فهي بارعة في كتابة التقارير. تقارير عن القصف، تقارير عن المجازر، تقارير عن التعذيب، وكل تقرير ينتهي بجملة شهيرة "ندعو المجتمع الدولي إلى التحرك". لكن من هو هذا المجتمع الدولي؟ هل هو كيان حي؟ أم مجرد فكرة جميلة يُلقيها السياسيون في خطبهم ثم ينسونها بعد انتهاء المؤتمر الصحفي؟ الأمم المتحدة لديها تقارير موثقة عن استخدام إسرائيل المفرط للقوة، عن استهداف المدنيين، عن الحصار الخانق الذي يرقى إلى عقوبة جماعية، لكن هل غيّر ذلك شيئًا؟ بالطبع لا، لأن إسرائيل ببساطة تعرف أن أقصى ما ستواجهه هو بيان أممي "يدعو إلى التهدئة".
بعض الدول الكبرى لا تكتفي فقط بالتأثير على القرارات، بل تموّل المنظمة نفسها، فتتحول الأمم المتحدة إلى موظف لدى من يدفع راتبه. هل سمعنا يومًا أن الأمم المتحدة انتقدت بشكل مباشر الولايات المتحدة أو الصين أو روسيا في قضايا حساسة؟ بالطبع لا، لأن الاستقلالية مكلفة، والمنظمات تحتاج إلى تمويل لتستمر في إصدار التقارير التي لن تُقرأ. وفي ملف غزة، نجد أن الولايات المتحدة تمنح إسرائيل مظلة حماية داخل المنظمة. قرارات وقف إطلاق النار تُجهَض، لجان التحقيق تُعرقَل، وحتى وكالة الأونروا، التي تقدم مساعدات إنسانية للفلسطينيين، تجد نفسها تحت الضغط المالي بسبب مزاعم لا ترقى إلى دليل قاطع.
لا أحد ينكر أن الأمم المتحدة أنجزت الكثير في مجالات مثل الصحة، التعليم، والمساعدات الإنسانية، لكن عندما يتعلق الأمر بوقف الحروب، فإنها تبدو كمن يحاول إطفاء حريق بكوب ماء. السؤال هنا: هل المشكلة في المنظمة ذاتها، أم في النظام العالمي الذي لا يريد لها أن تكون أكثر من شاهد صامت؟ ربما تحتاج الأمم المتحدة إلى إصلاح جذري، وربما تحتاج فقط إلى صافرة حقيقية، تجعل قراراتها أكثر من مجرد كلمات تُقال أمام الكاميرات، ثم تُنسى مع أول أزمة جديدة.

مقالات ذات صلة
إردوغان وإمام أوغلو.. القصة التي لا تنتهي
20 مارس 2025 04:12 م
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الرقمية
18 مارس 2025 04:15 م
النصب بنكهة رقمية: كيف تسرقك التكنولوجيا وأنت تبتسم؟
08 مارس 2025 03:20 م
مجرد رأي: هل يجب الاستعانة بعمرو موسى الآن؟
22 فبراير 2025 03:06 م
أكثر الكلمات انتشاراً