الإثنين، 25 نوفمبر 2024

05:51 م

الموهوب فطريًا حسن الشرق.. "ورقة لحمة" أهدته العالمية

الفنان الراحل حسن الشرق

الفنان الراحل حسن الشرق

المنيا ـــ نور زكي

A A

اعتاد الصبي "حسن" أن يختبئ من عتاب وتقريع أبيه، الحاج "عبد الرحمن"، جزار قرية "زاوية سلطان"، القابعة شرق النيل بالمنيا، والذي كان يشكو من رهافة حس ابنه البكر، حسن، أكبر الأبناء الستة، الذين رزق بهم جزار القرية المحبوب.

و مع مرور السنين يأس الأب من إقناع ابنه بتعلم وامتهان مهنة الجزارة، كما فشل في إثنائه عن اختلاس "أوراق اللحمة"، التي كان يستخدمها للرسم بالألوان بجانب ما كان يرسمه بقطع "الجير" على الحوائط والأبواب، وتطور الأمر من الطفل الموهوب لقص ليف النخيل و شعيرات من ذيل الحصان الهزيل، الذي يملكه والده، ليصنع فرشاته بنفسه. 

وكان الأب لا يكفّ عن نصحه "الشخبطة والرسم هيخربوا عقلك"، بينما شجعه مدرس العلوم في الابتدائي على استغلال موهبته في رسم الأجهزة والرسوم العلمية التوضيحية، خلال فترة التعليم الابتدائي، الذي لم يتمهل حسن ليكمله وينال شهادة "القبول"، وهو اسم شهادة الابتدائية قديمًا، فالمبدع الصغير كان يأبى أن تحده أسوار أو يُلزم بمُقَرّر إنما كانت روحه تهوى التحليق.

ورغم امتهان "حسن" مهنة "البقالة" وافتتاحه متجره الخاص، فإن عشقه للرسم كان يجري في عروقه. وظل القرويّ بسيط التعليم يصنع أدواته بنفسه من موارد الطبيعة، فهذه ألوانه، الكركديه المغلي يعطي لونًا أحمر، والشاي يحل محل اللون البني، أما الأكاسيد وزهرة الغسيل والحلبة فوفرت له قائمة أخرى من الألوان الأساسية والثانوية.

ولما تكونت لدى القروي عاشق الرسم بالفطرة ذخيرة كبيرة من الأوراق والقصاصات و"كراريس الرسم" المملوءة بإبداعاته الفطرية، خزنها في صندوق الجدة الخشبي، معتبرًا إياها كنزه الثمين، يعرض عينات منها في قصور الثقافة، ويكتفي بكلمات ثناء متكررة يتلقاها من أدباء الصعيد يمطرون بها الفنان التشكيلي صاحب الجلباب البلدي. وأطلق عليه مثقفو المنيا لقب "الشرق" تمييزًا له عن أي مبدع يحمل نفس الاسم، لأنه كان يقيم بقرية شرق النيل، فصار لقبه "حسن الشرق".

الفنان الراحل حسن الشرق يتفحص إحدي لوحاته بعد الانتهاء من الرسم 

مستشرقة ألمانية اكتشفته

وأبي القدر أن يظل "الشرق" في مجاهل النسيان منزويًا بين أوراقه، وعندما أكمل "الشرق" عامه السادس والثلاثين، وفي إحدي الليالي المقمرة من صيف عام 1985 قرع باب البيت قرعًا متواليًا، ليفتح حسن الباب ويفاجئ بأحد معارفه من قصور الثقافة وبرفقته سيدة أجنبية "افتح يا حسن الست أوسولا شيرننج مستشرقة ألمانية سمعت عن رسمك وعايزة تتفرج عليه".

وكان إعجاب واندهاش المستشرقة "شرننج" محطة انطلاق للفنان الفطري حسن الشرق من قريته بالصعيد نحو العالمية، بدأت خطواتها بمعرض أقامته له تلك المستشرقة في القاهرة، وبعد نجاح المعرض كانت المحطة التالية إقامة معرضين في مينتي "شتوتجارت" و"ميونخ" بألمانيا، ليجوب بعدها "الشرق" وأعماله العالم، ما بين معارض خاصة به وحده، ومعارض مشتركة مع فنانين عالميين ومعارض جماعية، لتجول أعماله كل قارات العالم، ويرفع اسمه واسم مصر في قرابة 45 مدينة وعاصمة عالمية.

مجاورة الأجداد

ولـ"حسن الشرق" العديد من المقتنيات الفنية بأبرز دول العالم وعواصمها، بينها ألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وأمريكا، وسويسرا، وهولندا، والمكسيك، وكولومبيا، وإسبانيا، والسويد، وإنجلترا، والسعودية، والكويت، وفلسطين، ولبنان، والمغرب، والهند، واليونان.

وله مقتنيات رسمية في العديد من المتاحف، بينها متحف ولاية بيروتس بألمانيا، ومتحف الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ووزارة الثقافة المصرية، ومتحف دار الأوبرا المصرية، ومتحف البنك الأهلي.

وكان الراحل الفنان "الشرق" يعتز ويفخر بأن له لوحتين ضمن مقتنيات متحف "اللوفر" الفرنسي، أشهر متاحف العالم، الذي يضم قناع الملكة نفرتيتي الذهبي، وهي أهم الملكات التي عاشت بنطاق محافظة المنيا، ولذلك اختار الإقليم رأس نفرتيتي رمزًا له. 

وكان الراحل حسن الشرق دائمًا ما يقول عن نفسه "قضيت نصف عمري لم أغادر قريتي إلَّا أن أعمالي جابت العالم من شرقه إلي غربه فمن بكين بالصين وطوكيو باليابان إلى واشنطن الأمريكية وبيجوتا في كولومبيا، لم تترك أعمالي بلداً معروفة أو دولة بارزة إلا ودعيت لعرض أعمالي بها".

ويقول عنه ابنه، شادي حسن “رغم ثقافة والدي و إلمامه بالكثير من مناحي الحياة إلا أنه كان فنانًا فطريًا لم يحصل علي شهادات، لكن رحلته وأعماله أصبحت مادة للعديد من رسائل الماجستير والدكتوراه في حياته، وكان يقول عن نفسه أنه لم يكمل تعليمه لكنه تربى على يد الطبيعة الساحرة، حيث تتميز قريته (زاوية سلطان) وانحصارها بين الجبل والنيل، وكان يحمل لوحة مكتوب عليها (علّمتني الحياة)”.

ويلفت شادي حسن أن والده أنتجت عن حياته أفلام تسجيلية بعدة لغات، منها أفلام إنتاج ألماني، وفرنسي، وسويسري، وأصدرت السفارة الألمانية قبل نحو 15 عامًا كتاباً بعنوان “حسن الشرق والريف المصري”، صدر في ثلاث لغات: الألمانية والإنجليزية والعربية، تحت إشراف المستشرقة الألمانية، أورسولا شيرننج، مكتشفة الفنان وأول من قدمت الرعاية لـ"الشرق".

وفي نهاية رحلة كفاح أسس "الشرق" متحفاً فنياً، من ماله الخاص، جمعت فيه عشرات الأعمال من إبداعاته وإبداعات زملائه الفنانين، التي تلقاها كهدايا منهم. 

رحيل ووداع

 

أحد ملصقات المعرض الثاني الذي يُقام بعد وفاة الفنان

ورحل الشرق عن عالمنا في نوفمبر من عام 2022. ويكشف ابنه شادي أن والده كان يُعد لمعرض من 40 لوحة عن رحلة العائلة المقدسة، وتوفي بعد إنجاز اللوحات وقبل افتتاح المعرض، فأقيم المعرض بعد رحيل الفنان بشهر واحد، واصطف أبناؤه داخل المعرض يستقبلون الزوار "رحل الشرق وبقي إبداعه".

وأضاف شادي، أن "جاليري ليوان" بحي الزمالك في القاهرة يُقيم معرضا لأعمال الشرق، حاليًا، ويستمر حتي مساء يوم 6 يناير المقبل، ويحمل عنوان “تحية إلي الخالد.. حسن الشرق”، فرغم رحيله فإن أعماله باقية تشهد على موهبة صاغتها الفطرة وإبداع أثقلته الطبيعة.

search