الجمعة، 22 نوفمبر 2024

07:24 ص

بلد المليون نخلة.. قصة العثور على حجر رشيد وفك رموزه

حجر رشيد

حجر رشيد

محمود موسى

A A

في يوم 19 يوليو 1799، حدث أهم الاكتشافات في تاريخ مصر بعدما تم فك رموز حجر رشيد الذي فتح الباب أمام معرفة الحضارة المصرية القديمة.

وقبل فك رموز حجر رشيد، لم يكن يمكن للعلماء قراءة اللغة الهيروغليفية التي تعد مفتاح قراءة الحضارة المصرية القديمة.

ويستعرض “تليجراف مصر” ذكرى اكتشاف حجر رشيد الذي تم اكتشافه في 19 يوليو من عام 1799 كالتالي:

أرض السحر والحكمة

وقبل فك رموز حجر رشيد، حاول العلماء المسلمون والعرب معرفة سر الحضارة المصرية القديمة من خلال محاولة تعلم الهيروغليفية، فعندما كانت الحضارة العربية تعيش عصرهها الذهبي وتقترب من أوج عظمتها حاولت معرفة المزيد عن الحضارة المصرية، إذ إن مصر أرض العلم والسخر والحكمة.

وكشف الدكتور عكاشة الدالي في كتابه “الألفية المفقودة، مصر القديمة في كتابات العرب”، جهود العرب في محاولة استكشاف علم المصريات، كما كشف الكتاب عن التقدم الذي أحرزه العرب والمسلمون بشأن الحضارة المصرية.

وكانت إحدى أبرز المحاولات لفهم علم المصريات من العالم العراقي "أحمد بن أبي بكر بن وحشية" الذي عاش في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين وكتب في العديد من المجالات أبرزها الكيمياء والزراعة وثقافات ما قبل الإسلام. 

وكتب العالم العراقي كتابه الشهير "شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام" ليترجم إلى الإنجليزية ونُشر في لندن عام 1806، وكان ابن وحشية أول باحث على الإطلاق يتحدث عن الرموز الدالة على المعنى.

أما المحاولة الأخرى كانت من الصوفي "ذو النون المصري" الذي نشأ في صعيد مصر ببلدة أخميم في بداية القرن التاسع الميلادي عندما كان أغلب المصريين لا يزالون يتحدثون القبطية سليلة لغة المصريين القدماء، وكان ذا النون المصري يعرف القبطية وبعض الديموطيقية وبعض الهيروغليفية أيضًا.

بوابة روز اليوسف | ذو النون: رأيت الله فى معابد الفراعنة!
رسم تخيلي لصورة ذو النون المصري

على ساحل مدينة رشيد

اكتشف حجر رشيد، في مدينة رشيد التي تُلقب بـ بلد المليون نخلة، وتقع في أقصى شمال مصر، وتتبع محافظة البحيرة إدارياً.

وتقع رشيد على رأس فرع رشيد أحد فرعي نهر النيل، تعتبر مدينة رشيد المدينة الأولى بعد القاهرة التي ما زالت تحتفظ نسبياً في بعض أجزائها بطابعها المعماري، وذلك بما تحتويه من آثار إسلامية ترجع إلى العصر العثماني، والتي تتنوع ما بين آثار مدنية ودينية وحربية، كما تم فيها اكتشاف حجر رشيد. 

وعلى ساحل مدينة رشيد، وفي يوم حار من أيام شهر يوليو تحديدا في يوم 19 من عام 1799، كان الضابط الفرنسي بوشارد يراقب جنوده أثناء هدم بعض الجدران في حصن سان جوليان “قلعة قايتباي برشيد”، لعمل بعض التعديلات الإنشائية في القلعة، بغرض اضافة بعض المدافع الجديدة.

وأثناء عملية الهدم، أتى جندي لقائده، وهو يقول “سيدي، لقد عثرت على حجر غريب، هل من الممكن أن تطلع عليه” وذهب بوشارد لمشاهدة الحجر فوجده ليس حجر بناء عادي، وكان مكتوب عليه نقوش في ثلاثة أجزاء، فشعر أن الأمر ليس طبيعيا.

وأمر الظابط بوشارد الجنود أن يحملوه الى المعسكر، وهنا، بدأ فاصل هام في التاريخ المصري بشكل عام.

أمام الجنرال مينو حاكم رشيد أو (عبد الله) كما أطلق على نفسه لاحقا، وقف الضباط يفحصون الحجر الغريب بعناية.

ولم يكن أحد يعرف ما هو مكتوب، ولكنهم اتفقوا على أهمية الحجر وما نقش عليه. 

أسلم وتزوّج بمسلمة... قصة مينو، القائد الثالث للحملة الفرنسية على مصر -  رصيف22
الحاكم مينو

خطاب شكر وعرفان 

أما عن حجر رشيد فهو عبارة لوحة من الجرانوديوريت منقوش عليها ثلاث نسخ لمرسوم صدر عام 196 قبل الميلاد في عهد الأسرة البطلمية في مصر،  إذ كانت النقوش المدونة على الحجر فهى خطاب شكر وعرفان موجه من مجموعة من كهنة مدينة منف للملك بطليموس الخامس لإعفائه للمعابد من دفع بعض الرسوم، وتمت كتابته عام 196 قبل الميلاد.

 ويتكون حجر رشيد من النصوص العلوية والمتوسطة مكتوبة باللغة المصرية القديمة باستخدام الكتابة الهيروغليفية (13 سطرًا) والديموطيقية (32 سطرًا)، فيما كتب الجزء السفلي باللغة اليونانية القديمة (53 سطرًا). 

ويحتوي المرسوم على اختلافات طفيفة فقط بين الإصدارات الثلاثة، مما يجعل حجر رشيد مفتاحًا لفك رموز النصوص المصرية.

وكانت مواصفات الحجر 112 سم ارتفاعا، يبلغ عرضه 76 سم، وسمكه حوالي 28 سم، وهو كتلة واحدة من الجرانوديورايت الأسود، وزنه الكلي حوالي 762 كجم.

ولم يكن علماء الآثار حينها في مدينة رشيد، إذ كانوا يتواجدون في المجمع العلمي في القاهرة، فرأى الجنرال مينو ضرورة نقل الحجر بسرعة، للعرض على لجنة من المجمع العلمي.

مصر تعرض نسخة من «حجر رشيد» للمرة الأولى
حجر رشيد

محاولات علمية

وفي منزل حسن كاشف شركس بالقاهرة، وقف مجموعة من العلماء الفرنسيين أمام الحجر، ولم يكن هذا المشهد يختلف كثيرا عن المشهد السابق، فلم يفهم أحد منهم ما على الحجر من كتابات أو مكتوبة بأي لغة.

وقام العلماء بعملية توثيق للحجر بعمل رسومات تفصيلية، ونشروا الخبر في مجلة المجمع العلمي باسم “Courier de l'Egypte”.

وقام أحد النحاتين بعمل عدة نسخ للحجر باستخدام الجبس المصبوب، لتسهيل عملية دراسة الحجر لاحقا، واتفقوا على تسميته “La piere de Rosette”  أو حجر رشيد.

وأثناء حصار الإنجليز للفرنسيين في الشواطئ المصرية، أدركوا أهمية ذلك الحجر، ولا بد من الحصول عليه بأي شكل، واشترط الإنجليز على جيش فرنسا قبل رحيله أن يسلم كل ما معه من آثار ومنهم الحجر، ليصبح الحجر في عهدة قائد الأسطول الإنجليزي، هاتشنسون ثم يصبح من أهم معروضات المتحف البريطاني.

واضطر المتحف البريطاني إلى بناء معرض جديد إذ لم تكن تستطع أرضية المتحف حمل حجر رشيد الذي 762 كيلو جرام.

وتم إصدار نسخ عديدة من الحجر ونشرها في عدة دول لإتاحة الفرصة لأكبر عدد من العلماء لدراسة الحجر، وبالفعل بدأ ثلاثة علماء في ثلاث دول مختلفة في دراسة الحجر هم الدبلوماسي السويدي جوهانس أوكربلا والعالم الفرنسي سلفستر دي ساسي، والعالم الإنجليزي توماس يونج.

Thomas Young hizo el experimento más bello de la historia de la física -  Libertad Digital
توماس يونج

إسهامات توماس يونج

قدم توماس يونج مساهمات كبيرة في فك رموز أنظمة الكتابة المصرية القديمة، إذ بدأ عمله في علم المصريات في عام 1813.

وبدأ توماس يونج باستخدام الأبجدية الديموطيقية المصرية المكونة من 29 حرفًا والتي أنشأها يوهان ديفيد آكربلاد في عام 1802، وفيما بعد تبين أن 14 حرفًا غير صحيحة، كان آكربلاد محقًا في تأكيده على أهمية النص الديموطيقي في محاولة قراءة النقوش، لكنه اعتقد خطأً أن الديموطيقية كانت أبجدية بالكامل.

بحلول عام 1814، كان يونج قد ترجم النص "الإنشادي" لحجر رشيد بالكامل باستخدام قائمة تحتوي على 86 كلمة ديموطيقية، ثم درس الأبجدية الهيروغليفية.

ظهر في تلك الفترة أيضًا العالم الفرنسي الأثري فرانسوا شامبليون، إذ كان يتنافس مع توماس يونج  على فك الرموز الهيروغليفية. 

في البداية تعاونا لفترة وجيزة في عام 1815، ثم عمل الثنائي بشكل منافس لسنوات عديدة احتفظا فيها بتفاصيل عملهما بعيدًا عن بعضهما البعض.

The Genius of Champollion - The Rosetta Stone Two Hundred Years Later |  Arab World Books
فرانسوا شامبليون

وظهرت بعض استنتاجات يونج في مقالته الشهيرة "مصر" التي كتبها لطبعة 1818 من الموسوعة البريطانية.

مؤسس وأب علم المصريات

وعندما نشر شامبليون أخيرًا ترجمة للهيروغليفية ومفتاح النظام النحوي في عام 1822، أشاد يونج بعمله، ومع ذلك، بعد مرور عام، نشر يونج تقريرًا عن الاكتشافات الحديثة في الأدب الهيروغليفي والآثار المصرية، بهدف الاعتراف بعمله كأساس لنظام شامبليون.

واكتشف يونج بشكل صحيح القيمة الصوتية لستة علامات هيروغليفية، لكنه لم يستنتج قواعد اللغة، واعترف يونج أن شامبليون يتفوق عليه بسبب معرفته ببعض اللغات الأخرى مثل القبطية. 

وأكد العديد من العلماء أن مساهمة يونج الحقيقية في علم المصريات كانت في فك رموز النص الديموطيقي، وحقق أول تقدم كبير في هذا المجال، كما أنه حدد بشكل صحيح الديموطيقية على أنها مؤلفة من علامات إيديولوجية وصوتية.

 ولكن ظل هناك جدال بين الطرفين مدفوعا بالتوترات السياسية بين إنجلترا وفرنسا في ذلك الوقت، ومال البريطانيون إلى تأييد يونج، بينما دافع الفرنسيون عن شامبليون الذي عين أمينًا لمتحف اللوفر في عام 1826.

مصر: حملة للمطالبة باسترداد «حجر رشيد» و«القبة السماوية»

وفي عام 1829، سافر شامبليون إلى مصر حيث تمكن من قراءة العديد من النصوص الهيروغليفية التي لم تتم دراستها من قبل، وأحضر معه مجموعة كبيرة من الرسومات الجديدة للنقوش الهيروغليفية.

 وحصل على أستاذية في علم المصريات، لكنه لم يحاضر إلا عدة مرات بسبب المرض، وتوفي في باريس عام 1832 عن عمر يناهز 41 عامًا، ونُشر كتابه في قواعد اللغة المصرية القديمة بعد وفاته، وبالتالي، فهو يعتبر “مؤسس وأب علم المصريات”، رغم انتقاد البعض لعدم منحه الفضل الكافي للاكتشافات المبكرة للإنجليزي توماس يونج، واتهموا شامبليون بالسرقة الأدبية.

search