الجمعة، 20 سبتمبر 2024

03:57 ص

صناعة الآلهة

"كم هزئت من أولئك الضعفاء الذين يعتبرون أنفسهم صالحين لمجرد أن لا مخالب لهم" هكذا وصف الفيلسوف الألماني الشهير فريدريك نيتشة، الأشخاص الذين يخفون خنوعهم تحت قناع الترفع والأخلاق،

صناع الآلهة، الذين يبحثون دائماً عن رمز، يقدسونه تدريجياً، ويرفضون بحدة مجرد محاولة انتقاده أو مراجعة أقواله وتصرفاته!

منذ قديم الأزل، احترفت شعوب هذه المنطقة صناعة الآلهة، حتى لو كانت من "العجوة" التي يأكلونها بأنفسهم بعد الطواف والتضرع إليها!

كنت مهووساً في صغري بأحد الدعاة، لدرجة أن قناعة ما سيطرت علي بأنه يوحى إليه، ولا شك أنه أعطى مريديه هذا الانطباع، بأحاديثه المتكررة عن رؤى تراوده، يتلقى خلالها إشارات مباشرة من الله تارة، ومن النبي تارة أخرى..

وبمرور الوقت والتجارب، عانيت صراعاً داخلياً، بين الاستسلام لقناعاتي القديمة بشأنه، وتساؤلات نقدية تتعاظم يوماً بعد الآخر، فأعدت الاستماع بتأن إلى تسجيلات الرجل، وهالني حجم التناقضات في أحاديثه، والروايات التي لا يقبلها عقل أو منطق، لكن في النهاية يظل الأكثر تأثيراً في أجيال بأكملها، يرفض المنتمون إليها مجرد مراجعة أفكاره أو فتاويه، ويعتبرونه منزهاً عن الهوى، وينهشون من يخالفهم في ذلك!!

ثقافة صناعة الآلهة لا تقتصر على الحكام على مر التاريخ، أو رجال الدين، الذين كانوا أصحاب السطوة العظمى في أوروبا خلال العصور الوسطى، قبل أن تتحرر وتتخذ مساراً أوصلها إلى ما هي عليه الآن من تقدم وتطور وتنمية، 

بل تفرض هذه الثقافة نفسها، حين يثور جدل حول شخصية عامة لها ثقلها في مجال ما، مثل الرياضة، والحديث هنا عن النجم محمد صلاح، وها أنا شخصياً أشعر بحساسية بمجرد ذكر اسمه، إذ أدرك جيداً أني سوف اصطدم بملايين تراني وغيري أحقر من أن نراجع تصرفاته أو ننتقد مواقفه!

هناك انقسام غريب مريب غير مبرر أو مفهوم حول محمد صلاح، ففريق يرى أنه فوق النقد لجدارته بذلك، وفريق يشكك في انتمائه، لوطنه الأصغر مصر، والأكبر العروبة والإسلام بسبب مواقفه الأخيرة سواء مع المنتخب في بطولة كأس الأمم الإفريقية أو لموقفه المائع حسب توصيفهم من المجازر التي يتعرض لها أشقاؤنا في غزة!

وأنا شخصياً مقتنع بأن صلاح لم يعد يبالي كثيراً بالفريقين، فهو متقوقع حول ذاته، بشكل واضح، وملتزم بمسار حدده لنفسه، ويرسمه له فريق من المحترفين الذين لا يقيمون لجمهوره وزناً يذكر!

هل أحترم عقلية صلاح؟

سؤال صعب، لو حاولت الإجابة عليه أنا أو غيري على عمومه، 

وهذا هو الخطأ الأكبر الذي أبني عليه هذا المقال، إذ توصلت إلى قناعة مفيدة أنصحكم بتجربتها، وهي معاملة الناس بالقطعة..

ومن ثم لا أحاسب صلاح على مجمل تصرفاته، فهو بالنسبة لي من جانب، أفضل رياضي في تاريخ مصر، وملهم للملايين من الأطفال والشباب الذي يرونه أيقونه ومنارة مضيئة في أفق مظلم، وهذا كافٍ لاحترامه وتقديره ومحبته..

ومن جانب آخر، أرى أنه فرط في فرص التمسك بزمام القيادة في الأماكن التي ينتمي إليها، لذا ليس هو كابتن أو قائد فريقه، ويسبقه في ذلك شباب أصغر سناً مثل أرنولد الذي يحمل الشارة حين يغيب فان دايك، والسبب معلن وهو أن صلاح لا يتمتع بسمات القيادة!

وإذا كانت هذه قناعة النادي الذي توجته جماهيره ملكاً عليه، فلم يكن من المنطقي أن يتولى قيادة منتخب مصر على حساب من يسبقونه في الترتيب، خصوصاً أنه لا يقدم أفضل أداء مع المنتخب، ولم يكشر عن أنيابه في مناسبات استلزمت ذلك، وها هو يفضل المغادرة إلى ليفربول لاستكمال علاجه في وقت كان من الأولى أن يستمر مع زملائه حتى لو لم يلعب، فالقبطان المخلص آخر من يغادر السفينة!

هل يقلل ذلك من احترامي لصلاح؟

إطلاقاً، فالرجل كما ذكرت سابقاً، يعرف أولوياته جيداً، ولا يتعامل بأي قدر من العاطفة مع هذه الجماهير الشغوفة التي تنتظر منها أن يزلزل الملاعب، ويقدم النسخة الانفجارية التي تميزه في إنجلترا

لقد أكلت كل آلهتي في سن مبكرة، لذا لا أقدس أحداً أو أنزهه عن الخطأ، كما أنني لا أكتب شيكاً على بياض لكائن من كان، فالتقدير عندي على قدر العطاء..

خلاصة القول، صلاح يقدم لي المتعة مصبوغة بعلم مصر في أفضل ملاعب كرة قدم بالعالم، لذا سيظل في نظري أحد أفضل لاعبي رياضتي المفضلة، وهذا ما يربطني به، بعيداً عن سلوكياته الإنسانية وأعماله الخيرية، وثقافته فهذا مردود عليه..

وأدرك أننا سوف نتغير كثيراً للأفضل حين نتوقف عن تقديس البشر..

title

مقالات ذات صلة

search