
أساطير حول الفُصام واضطراب الهوية.. صِناعة سينمائية مضلِّلة!
لطالما وجدت السينما والدراما في الاضطرابات النفسية أرضًا خصبة لإنتاج أعمال مشوقة، تمزج بين الإثارة والغموض، لكنها في كثير من الأحيان تجنح إلى المبالغة والتشويه، فتغدو الأمراض النفسية مجرد أدوات لخلق الإثارة، بعيدًا عن حقيقتها العلمية.
تتسلل تلك الصور المشوهة إلى أذهان الجمهور، فتُرسّخ مفاهيم مغلوطة تجعل من المضطربين نفسياً شخصيات خارجة عن السيطرة، أقرب إلى الخطر منها إلى المعاناة.
ومن بين الاضطرابات الأكثر تعرضًا لسوء الفهم، يأتي الفصام في المقدمة. ما إن تُذكر الكلمة حتى يقفز إلى الذهن نموذج الشخصيتين المتضادتين، أو ربما صورة سعاد حسني في "بئر الحرمان"، تلك المرأة التي تعيش نهارًا بهوية وليلًا بأخرى. لكن الحقيقة أن الفيلم، وإن قدم دراما مشوقة، لم يعكس مرض الفصام، بل كان أقرب إلى اضطراب الهوية التفارقي، وهو أحد الاضطرابات المعقدة التي تتسم بوجود شخصيتين أو أكثر تتناوبان على التحكم في وعي الفرد وسلوكياته.
لكن عندما نقول الفصام (Schizophrenia)، فإننا لا نتحدث عن ازدواج الشخصية كما تروج له الأعمال الدرامية، بل عن اضطراب عقلي شديد يؤثر على التفكير، والسلوك، والإدراك. يعدّ الفصام من أكثر الاضطرابات النفسية تعقيدًا، حيث يعاني المصاب به من انفصال عن الواقع، يجعله يرى ويسمع أشياء غير موجودة، أو يعتنق أفكارًا غريبة لا تقبل التغيير.
تشمل أعراض الفصام:
الهلاوس (Hallucinations): سماع أصوات، رؤية أشخاص، أو حتى الشعور بروائح وأحاسيس غير موجودة.
التوهمات (Delusions): مثل الاعتقاد بأن الشخص مراقب، أو أنه يمتلك قدرات خارقة، أو أن الآخرين يحاولون إيذاءه.
اضطراب التفكير والكلام: الحديث غير المترابط، القفز بين الأفكار دون منطق واضح.
الانسحاب الاجتماعي: تجنب العلاقات الاجتماعية، وفقدان الاهتمام بالنشاطات اليومية.
ورغم أن الفصام يُعدّ اضطرابًا معقدًا، إلا أن السينما تصوره أحيانًا كمصدر للخطر والعنف، بينما في الواقع، معظم المصابين بالفصام لا يشكلون أي تهديد للآخرين، بل يكونون أكثر عرضة للعنف من قِبل المجتمع بسبب وصمة العار المحيطة بالمرض.
الخلط بين الفصام واضطراب الهوية التفارقي (Dissociative Identity Disorder - DID) ليس جديدًا على الدراما. اضطراب الهوية التفارقي هو حالة نادرة، لكنه حقيقي، ويتميز بوجود هُوِيَّتين أو أكثر داخل نفس الشخص، تظهر كل منهما في أوقات مختلفة، ولكل منها طباعها وذكرياتها وسلوكها الخاص.
هذا الاضطراب غالبًا ما ينشأ نتيجة صدمات نفسية شديدة، خاصة في مرحلة الطفولة، كالتعرض للإيذاء الجسدي أو النفسي أو الجنسي، مما يدفع العقل إلى تطوير شخصيات مختلفة لحماية الذات من الألم.
تشمل أعراض اضطراب الهوية التفارقي:
انفصال الوعي (Dissociation): حيث يشعر المصاب كأنه خارج جسده، أو كأنه يراقب نفسه من بعيد.
فقدان الذاكرة (Amnesia): نسيان أحداث مهمة في الحياة دون سبب واضح.
وجود شخصيات متعددة: حيث يمكن أن تختلف كل شخصية عن الأخرى في الاسم، والعمر، وحتى طريقة الحديث والتصرف.
ورغم أن هذا الاضطراب يُصوَّر في الدراما كشخصيتين متضادتين تمامًا، إلا أن الواقع أكثر تعقيدًا، حيث لا يدرك المصاب دائمًا وجود شخصيات أخرى داخله، بل يلاحظ فجوات في ذاكرته وسلوكيات لا يتذكر قيامه بها.
من الأفلام التي حاولت تسليط الضوء على الفصام كان فيلم أحمد حلمي "آسف على الإزعاج"، الذي قد<م صورة قريبة - وإن لم تكن دقيقة تمامًا- عن معاناة مريض الفصام. ولكن حتى هذا العمل لم يخلُ من المبالغات، خاصة في طريقة عرض الهلاوس البصرية، التي لا تكون دائمًا بهذا الوضوح أو التكامل الذي ظهر في الفيلم.
في الواقع، يمكن أن تكون الهلاوس مجرد ظلال، أو أشكال غامضة، أو تغييرات طفيفة في الألوان، وأحيانًا تكون سمعية فقط، دون أن يكون لها شكل مرئي محدد.
أما اضطراب الهوية التفارقي، فقد كان محط اهتمام أفلام كثيرة، من بينها فيلم "Split" الذي قدم صورة درامية مثيرة لشخص يعاني من 23 شخصية مختلفة. ورغم نجاح الفيلم في إبراز تعقيد الحالة، إلا أنه بالغ في تصوير المصاب كخطر على المجتمع، وهو أمر غير دقيق علميًا، إذ أن معظم مرضى اضطراب الهوية يعانون داخليًا أكثر مما يشكلون خطرًا على الآخرين.
ربما كان للسينما والدراما دور في تسليط الضوء على الأمراض النفسية، لكنها أيضًا مسؤولة عن انتشار كثير من المفاهيم المغلوطة. نحن لا نعيش في عالم يخلو من الفوضى، ولكن هل يمكن لهذه الفوضى أن تكون "خلاقة"؟
ربما. فقد يكون هذا الزخم، رغم أخطائه، هو الخطوة الأولى نحو نقاش أعمق وأكثر وعيًا، حيث لا تُختزل الأمراض النفسية في شخصيات درامية مثيرة، بل تُفهم كحالات إنسانية تستحق الفهم والتعاطف، لا الوصم أو التهويل.
في النهاية، يبقى العقل البشري أعقد من أي سيناريو، وتبقى الحقيقة دائمًا أغرب من الخيال.

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
التقلقل العاطفي في "الكابتن".. عندما يصبح الضحك اضطراباً!
04 مارس 2025 12:07 م
سيكولوجية "نكد المرأة"!
24 فبراير 2025 11:52 ص
المشاكل النفسية.. من الحب وإلى الحب!
13 فبراير 2025 10:10 ص
أكثر الكلمات انتشاراً